الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي السنن نوعان من الدعاء يقال في كل منهما لمن دعا به أنه دعا الله باسمه الأعظم، أحدهما : "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام". والآخر : "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم [ ص: 287 ] يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". والأول سؤال بأنه المحمود، والثاني سؤال بأنه الأحد، فذاك سؤال بكونه محمودا، وهذا سؤال بوحدانيته المقتضية توحيدا، وهو في نفسه محمود يستحق الحمد، معبود يستحق العبادة.

والنصف الأول من الفاتحة الذي هو نصف الرب، أوله تحميد وآخره تعبيد، وقد بسط مثل هذا في مواضع، وبين أن التحميد والتوحيد مقرونان، ولا بد منهما في كل خطبة، فكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وكل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء. والحمد مقرون بالتسبيح، ولا إله إلا الله مقرون بالتكبير، كذاك تحميده وهذا توحيده. قال تعالى: فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين ، ففي أحدهما إثبات المحامد له، وذلك يتضمن جميع صفات الكمال ومنع النقائص، وفي الآخر إثبات وحدانيته في ذلك، وأنه ليس له كفو في ذلك.

وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذين الأصلين يجمعان جميع أنواع التنزيه، فإثبات المحامد المتضمنة لصفات الكمال تستلزم نفي النقص، وإثبات وحدانيته وأنه ليس له كفو في ذلك يقتضي أنه لا مثل له في شيء من صفات الكمال، فهو منزه عن النقائص ومنزه أن يماثله شي في صفات الكمال، كما دل على هذين الأصلين قوله تعالى: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . [ ص: 288 ]

واسمه "الله" تضمن جميع المحامد، فإنه يتضمن الإلهية المستلزمة لذلك، فإذا قيل "لا إله إلا الله" تضمنت هذه الكلمة إثبات جميع المحامد، وأنه ليس له فيها نظير، إذ هو إله لا إله إلا هو. والشرك كله إثبات نظير لله عز وجل، ولهذا يسبح نفسه ويعاليها عن الشرك في مثل قوله: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون . وقال تعالى: أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون . فإن الشرك قول هو وصف، وعمل هو قصد، فنزه نفسه عما يصفون بالقول والاعتقاد وعن أن يعبد معه غيره.

وأعظم آية في القرآن آية الكرسي، أولها: الله لا إله إلا هو الحي القيوم . فقوله "الله" هو اسمه المتضمن لجميع المحامد وصفات الكمال، وقوله "لا إله إلا هو" نفي للنظراء والأمثال. وكذلك أول الكلمات العشر التي في التوراة: "يا إسرائيل! أنا الله لا إله إلا أنا"، جمع بين الإثبات ونفي الشريك، فالإثبات لرد التعطيل، والتوحيد لنفي الشرك.

وهكذا التحميد والتوحيد، فالتحميد متضمن إثبات ما يستحقه من المحامد المتضمنة لصفات الكمال، وهو رد للتعطيل، والتوحيد رد للشرك، والتحميد يتضمن إثبات أسمائه الحسنى، وكلها محامد له، وهو يتضمن ذكر آياته وآلائه، فإنه محمود على آلائه كلها، وآياته [ ص: 289 ] كلها من آلائه، كما قد بسط في مواضع. فهو محمود على كل ما خلق، له الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد ذلك، فله الحمد حمدا يملأ جميع ما خلقه، ويملأ ما شاء خاصة بعد ذلك، إذ كان كل مخلوق هو محمود عليه، بل هو مسبح بحمده، كما قال تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا .

والتوحيد يقتضي نفي كل ند ومثل ونظير، وهو كمال التحميد وتحقيقه ذاك إثباته بغاية الكمال ونفي النقص، وهذا نفي أن يكون له مثل أو ند.

وقوله: وسبح بحمد ربك قد فسرها كثير من المفسرين أي فصل بحمد ربك والثناء عليه، لم يذكر ابن الجوزي غير هذا القول، قال : وسبح بحمد ربك أي صل له بالحمد والثناء عليه. وتفسير التسبيح بالصلاة فيها أحاديث صحيحة وآثار كثيرة، مثل حديث جرير المتقدم.

وأما قوله: بحمد ربك فقد فسروه كما تقدم، أي بحمد ربك وشكر ربك وطاعة ربك وعبادة ربك، أي بذكرك ربك وشكرك ربك وطاعتك ربك وعبادتك ربك، ولا ريب أن حمد الرب والثناء عليه ركن في الصلاة، فإنها لا تتم إلا بالفاتحة التي نصفها الأول حمد لله وثناء عليه وتحميد له، وقد شرع قبل ذلك الاستفتاح، وشرع الحمد عند الرفع من الركوع، وهو متضمن لحمد الله تعالى. [ ص: 290 ]

وذكر طائفة من المفسرين كالثعلبي وغيره قولين، قالوا -واللفظ للبغوي -: "وسبح بحمد ربك" أي صل بأمر ربك، وقيل: صل له بالحمد له والثناء عليه. فهذا القول الأول الذي ذكره البغوي هو مأثور عن أبي مالك أحد التابعين الذين أخذ عنهم السدي التفسير من أصحاب ابن عباس. وروى ابن أبي حاتم عن أسباط عن السدي عن أبي مالك: قوله بحمد أي بأمر. وتوجيه هذا أن قوله "بحمده" أي بكونه محمودا، كما قد قيل في قول القائل "سبحان الله وبحمده"، قيل: سبحان الله ومع حمده أسبحه، أو أسبحه بحمدي له، وقيل: سبحان الله وبحمده سبحناه، أي هو المحمود على ذلك، كما تقول: فعلت هذا بحمد الله، وصلينا بحمد الله، أي بفضله وإحسانه الذي يستحق الحمد عليه. وهو يرجع إلى الأول، كأنه قال: بحمدنا الله فإنه المستحق لأن نحمده على ذلك.

وإذا كان ذلك بكونه المحمود على ذلك فهو المحمود على ذلك، حيث كان هو الذي أمر بذلك وشرعه، فإذا سبحنا سبحنا بحمده، كما قال تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية. وقد يكون القائل الذي قال: "فسبح بحمد ربك" أي بأمره أراد المأمور به، أي سبحه بما أمرك أن تسبحه به، فيكون المعنى: سبح التسبيح الذي أمرك ربك به، كالصلاة التي أمرك بها. وقولنا "صليت بأمر الله" و"سبحت بأمر الله" يتناول هذا وهذا، يتناول أنه أمر بذلك ففعلته بأمره لم أبتدعه، وأني فعلت بما أمرني به لم أبتدع. [ ص: 291 ]

فأما هذه الآية: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فلم يذكر البغوي وابن الجوزي إلا أنه الصلاة كما ذكرنا، وكذلك آية "ق"، قال ابن الجوزي : "وسبح بحمد ربك" أي صل بالثناء على ربك والتنزيه عما يقول المبطلون. فذكر الثناء والتنزيه عما يقول المبطلون تفسيرا للحمد. فأما البغوي فإنه قال: فصل حمدا لله.

وهو ينقل ما يذكره الثعلبي في تفسيره في مثل هذه المواضع، والثعلبي يذكر ما قاله غيره، سواء قاله ذاكرا أو آثرا، ما يكاد هو ينشئ من عنده عبارة، وهذه عبارة طائفة قالوا: "سبح بحمد ربك" صل حمدا لله، جعل نفس الصلاة حمدا، كما يقال: افعل هذا حمدا لله أي شكرا.

وهذا بنى على قول من قال: "بحمد ربك" أي بكونه محمودا، ثم جعل المصدر يضاف إلى المفعول.

وليس المراد أن الحمد غير التسبيح، بل نفس تسبيح الله هو حمد الله. ولفظ التسبيح يراد به جنس الصلاة، وقد يراد به جنس الصلاة، وقد يراد به النافلة خصوصا، فإن الفرض لما كان له اسم يخصه جعل هذا اللفظ للنافلة، كما في الحديث : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبح على راحلته حيث توجهت به راحلته. وكان يصلي سبحة الضحى، ومنه ما رواه مسلم في صحيحه عن حفصة قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في سبحته قاعدا، حتى كان قبل وفاته [ ص: 292 ] بعام -وفي رواية: أو اثنين- فكان يصلي في سبحته قاعدا، وكان يقرأ فيها بالسورة فيرتلها، حتى يكون أطول من أطول منها. ومنه أيضا ما أخرجاه في الصحيحين عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.

لكن هذا يوجد في كلام الفصحاء، تسمية التطوع سبحة، خصوه بذلك. وأما في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحتاج إلى نقل عنه.

ويراد بالتسبيح جنس ذكر الله تعالى، يقال: فلان يسبح، إذا كان يذكر الله. ويدخل في ذلك التهليل والتحميد، ومنه سميت "السباحة" للإصبع التي يشير بها، وإن كان يشير بها في التوحيد. ويراد بالتسبيح قول العبد "سبحان الله"، وهذا أخص به.

وفي السنن : لما أنزل الله تعالى: فسبح باسم ربك العظيم قال: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزل: سبح اسم ربك الأعلى قال: "اجعلوها في سجودكم". وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال في يوم مئة مرة: سبحان الله وبحمده، حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر". [ ص: 293 ]

وقد قيل: إن الصلاة إنما سميت تسبيحا لاشتمالها على القيام والقراءة، وتسمى ركعة وسجدة لاشتمالها على الركعة والسجدة. لكن فرق بين قوله "سبح اسم ربك الأعلى" و"العظيم" -فهذه قد فسرت بالتسبيح المجرد قول العبد في ركوعه وسجوده: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى- وبين قوله "فسبح بحمد ربك"، فإن هذا إذا قيل: إن المراد بحمدك ربك أمر بالتسبيح وبالحمد، كقوله "سبحان الله وبحمده".

والمصلي إذا حمد ربه في القيام، أو في القيام والقعود، وسبح في الركوع والسجود، فقد جمع التسبيح والحمد، فسبح بحمد الله. فالصلاة تسبيح بحمد ربه، كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية