الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة

في رجل كلما ختم القرآن أو قرأ شيئا منه يقول: اللهم اجعل ثواب ما قرأته هدية مني واصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى جميع أهل الأرض في مشارق الأرض ومغاربها.

فهل يجوز ذلك أو يستحب؟ وهل يجب إنكار ذلك على فاعله؟ وهل فعله أحد من علماء المسلمين؟

الجواب

الحمد لله، هذه المسألة مبنية على أصل، وهو أن إهداء ثواب العبادات إلى الموتى هل يصل إليهم أم لا؟

فأما العبادات المالية كالصدقة فلا نزاع بين المسلمين أنها تصل إلى الميت، إذ قد ثبت في الصحيح أن سعدا قال: يا رسول الله! إني أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت لتصدقت، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال: نعم.

وأما العبادات البدنية كالصوم والصلاة والقراءة ففيها قولان: أحدهما: يجوز إهداء ثوابها إلى الميت، وهو مذهب أبي [ ص: 210 ] حنيفة وأحمد وطائفة من أصحاب مالك والشافعي.

والثاني: لا تصل، وهو المشهور عند أصحاب مالك والشافعي، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي نذرت صيام شهر، فقال: "صومي عن أمك".

فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على أن العبادات البدنية تفعل عن الميت كالعبادات المالية، وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ويذكر أنه أمره بذلك.

إذا عرف هذا فإهداء ثواب القرآن إليه صلى الله عليه وسلم أو إلى جميع أهل الأرض هو مثل إهداء ثواب الصيام التطوع والصلاة التطوع ونحوهما، ومثل إهداء ثواب الصدقة والعتق والحج على أحد القولين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين، ولم يبلغنا أن أحدا من السلف والصحابة والتابعين وتابعيهم كان يفعل ذلك، وأقدم من بلغنا أنه فعل شيئا من ذلك علي بن الموفق أحد الشيوخ من طبقة أحمد الكبار وشيوخ الجنيد.

وبعض الناس ينكر هذا لأجل كون النبي صلى الله عليه وسلم أعلى من أن أحدا يهدي إليه شيئا، وهذا الإنكار ليس بجيد، فإنا مأمورون أن نصلي [ ص: 211 ] على النبي صلى الله عليه وسلم وأن نسلم عليه وأن نسأل له الوسيلة، وقد ثبت عنه أنه قال : "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة".

والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "لا تنسنا من دعائك"، ولما أخبره بأويس القرني قال: "إن استطعت أن يستغفر لك فليستغفر لك".

وكذلك الصدقة عن الميت والصوم عنه يجوز، وإن كان الميت أفضل ممن يصوم عنه ويتصدق عنه، فكون الشخص الميت أفضل من الحي أو كونه نبيا أو صديقا لا يمنع أن يشرع للحي الدعاء له، كما أنه يصلي على جنازته، ولا يمنع أيضا أن يهدي إليه ما يهدي إلى الميت من ثواب الأعمال الصالحة، والله تعالى بفضله يرحم هذا وهذا، كما قال : "من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا". و "من سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة". [ ص: 212 ]

لكن إهداء ثواب الأعمال إلى جميع الناس ما سمعت أحدا فعله، ولا سمعت أن أحدا كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا ما بلغني عن علي بن الموفق ونحوه. والاقتداء بالصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، فينبغي للإنسان أن يفعل المشروع من الصلاة عليه والتسليم، فهذا هو الذي أمر الله به ورسوله. وفي السنن عنه: "أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي"، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء". وقال له رجل: أجعل لك ثلث صلاتي، فقال: "إذا يكفيك الله ثلث أمرك"، قال: أجعل نصف صلاتي، فقال: "إذا يكفيك الله نصف أمرك"، قال: أجعل ثلثي صلاتي، قال: "إذا يكفيك الله ثلثي أمرك"، فقال: أجعل صلاتي كلها عليك، قال: "إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك".

التالي السابق


الخدمات العلمية