الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقصود الكلام على اسمه "القيوم" ، والتنبيه على بعض ما دل عليه من المعارف والعلوم ، فهو سبحانه قيوم السماوات والأرض ، لو أخذته سنة أو نوم لهلكت السماوات والأرض . والمخلوق ليس له من نفسه شيء ، بل الرب أبدع ذاته ، فلا قوام لذاته بدون الرب ، والمخلوق بذاته فقير إلى خالقه ، كما أن الخالق بذاته غني عن المخلوق ، فهو الأجل الصمد ، والمخلوق لا يكون إلا فقيرا إليه ، والخالق لا يكون إلا غنيا عن المخلوق ، وغناه من لوازم ذاته ، كما أن فقر المخلوق إلى خالقه من لوازم ذاته . وهذا المعنى مما يتعلق بقول الله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم تعلقا قويا .

والناس يشهدون إحداثه لمخلوقات كثيرة وإفناءه لمخلوقات كثيرة ، وهو سبحانه يحدث ما يحدثه من إرادة يحيلها ويعدمها إلى شيء آخر ، ويفني ما يفنيه بإحالته إلى شيء آخر ، كما يفني الميت بأن يصير ترابا .

وعلى هذا تترتب مسائل المعاد ، فإن الكلام على النشأة الثانية فرع عن النشأة الأولى ، فمن لم يتصور الأولى فكيف يعلم الثانية؟ [ ص: 174 ] قال تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون . فهؤلاء غلطوا في معرفة النشأة الأولى ، فكانوا في معرفة النشأة الثانية أغلط ، كما قد ذكر هذا في غير هذا الموضع .

وكان غلطهم لأنهم ظنوا أن الله يفني العالم كله ولا يبقى موجود إلا الله ، كما قالوا : إنه لم يكن موجود إلا هو ، فقطعوا بعدم كل ما سوى الله . ثم اختلفوا ، فقال الجهم : إنه يفني العالم كله ، وإنه وإن أعاده فإنه يفني الجنة والنار ، فلا يبقى جنة ولا نار ، لأن ذلك يستلزم دوام الحوادث ، وذلك عند الجهم ممتنع بنهاية وبداية في الماضي والمستقبل . وقال الأكثرون منهم : بل هو إذا أعدم العالم بالكلية فإنه يعيده ولا يفنيه ثانيا ، بل الجنة باقية أبدا ، وفي النار قولان .

وهؤلاء قطعوا بإفناء العالم ، وللنظار فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : القطع بإفنائه .

والثاني : التوقف في ذلك ، وأنه جائز ، لكن لا يقطع بوجوده ولا عدمه .

والثالث : القطع بأنه لا يفنيه . وهذا هو الصحيح ، والقرآن يدل على أن العالم يستحيل من حال إلى حال ، فتنشق السماء فتصير [ ص: 175 ] وردة كالدهان ، وتسير الجبال وتبس بسا ، وتدك الأرض ، وتسجر البحار ، وتنكدر النجوم وتتناثر ، وغير ذلك مما أخبر الله به في القرآن ، لم يخبر بأنه يعدم كل شيء ، بل أخباره المستفيضة بأنه لا يعدم الموجودات .

فقوله : كل من عليها فان أخبر فيه بفناء من على الأرض فقط ، والفناء يراد به الموت ولا يراد به عدم ذواتهم ، فإن الناس إذا ماتوا صارت أرواحهم إلى حيث شاء الله من نعيم وعذاب ، وأبدانهم في القبور وغيرها ، منها البالي وهو الأكثر ، ومنها ما لا يبلى كأبدان الأنبياء ، والذي يبلى يبقى منه عجب الذنب ، منه بدأ الخلق ومنه يركب . فهؤلاء لما قالوا : إنه يفني جميع العالم وإن ذلك واقع وممكن ، احتاجوا إلى تلك الأقوال الفاسدة ، وإلا فالفناء الذي أخبر به القرآن هو الفناء المشهود بالاستحالة إلى مادة ، كما كان الإحداث [ ص: 176 ] بالحق من مادة .

فاسمه سبحانه "القيوم" يقتضي الدوام والثبات والقوة ، ويقتضي الاعتدال والاستقامة ، وقد وصف نفسه بأنه قائم بالقسط ، وأنه على صراط مستقيم . ومنه قوله : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، ومنه قامة الإنسان وهو اعتداله ، ومنه قيام الإنسان ، فإنه يتضمن الاعتدال مع كمال وطمأنينة ، ومنه قول الشاعر :


أقيمي أم زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم



فإنه أراد : وجهي صدور العيس نحو بني تميم . والعيس هي الإبل التي تركب ويحمل عليها ، ويقال : الإبل العيس ، جمع عيساء .

التالي السابق


الخدمات العلمية