الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والكلام في هذا ونحوه يطول ويتعذر ، بحيث لا تحتمله هذه الفتوى ، لكن هذه الأمور المتيسرة تعود إلى أفضل الأحوال : الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله كما ثبت ذلك بالنصوص . وقد قال تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون .

فالجهاد تحقيق كون المؤمن مؤمنا; ولهذا روى مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "من مات ولم يغز ولم يحدث [ ص: 361 ] نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق" .

وذلك أن الجهاد فرض على الكفاية ، فيخاطب به جميع المؤمنين عموما ، ثم إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين . ولا بد لكل مؤمن من أن يعتقد أنه مأمور به ، وأن يعتقد وجوبه وأن يعزم عليه إذا احتيج إليه ، وهذا يتضمن تحديث نفسه بفعله . فمن مات ولم يغز أو لم يحدث نفسه بالغزو نقص من إيمانه الواجب عليه بقدر ذلك; فمات على شعبة نفاق .

فإن قيل : فإذا كان الجهاد أفضل من الحج بالكتاب والسنة فما معنى الحديث الذي روته عائشة أم المؤمنين قالت : يا رسول الله! أرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال : "لكن أفضل الجهاد : حج مبرور" رواه البخاري ، ورواه النسائي ، وفيه : ألا نخرج نجاهد معك فإني لا أرى عملا أفضل من الجهاد . قال : "لا ، ولكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت حج مبرور" .

قيل : أفضل الجهاد للنساء حج مبرور . فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أفضل الجهاد للنساء حج مبرور . وكذلك جاء مبينا ، رواه النسائي عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة : الحج والعمرة" . وفي حديث آخر : "الحج جهاد كل [ ص: 362 ] ضعيف" . وفي حديث آخر : هل على النساء جهاد؟ قال : "جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة" .

سياق الحديث المتقدم بين ذلك ، فإنها قالت : نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد معك؟ قال : "لكن أفضل الجهاد : حج مبرور" . فقد أقرها على قولها : "نرى الجهاد أفضل العمل" ، ثم ذكر أن "أفضل الجهاد الحج المبرور" .

وفي اللفظ الآخر : ألا نخرج فنجاهد معك فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل من الجهاد؟ قال : "لكن أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور" . فأقرها على قولها بفضل الجهاد ، ثم لما استأذنته في الجهاد المعروف قال : "لا ، ولكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت" ، وجعل فضله بكونه جهادا ، ومعلوم بالحس أن الجهاد لا يقاوم الجهاد في الكفار والمنافقين; فعلم أنه أراد جهاد النساء ، واللام للتعريف ، ينصرف إلى ما يعرفه المخاطب .

ومقصود الناقل هنا الجهاد الذي هو أفضل العمل له عند الله;- فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجهاد الذي هو مقصوده ومطلوبه هو الحج; فإن السائل ضعيف; والحج جهاد كل ضعيف . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "المؤمن القوي خير وأحب إلى [ ص: 363 ] الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان" .

التالي السابق


الخدمات العلمية