الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أما المطلقة طلاق السنة التي طلقت في طهر لم يصبها فيه فالظاهر من هذه أنها ليست حاملا، والتي استبان حملها ظاهر أمرها أنها حامل، والتي وطئها ولم يعلم أحملت أم لا فهذه مشكوك فيها، لا تدري أعدتها القروء أو وضع الحمل. والأولى طلاقها جائز بالاتفاق، والثانية أيضا طلاقها جائز بالاتفاق، وهذه الثالثة لا يجوز طلاقها؛ لأنه يحتمل أن تكون عدتها القروء، ويحتمل أن تكون عدتها الحمل.

والله إنما أباح الطلاق للعدة، وذلك إنما هو لمن علمت عدتها، وهي القروء أو الحمل، وهي المطلقة في الطهر قبل الجماع، أو المطلقة وقد استبان حملها. وإذا كان كذلك فالآية تضمنت أمر المطلقة بأن تتربص ثلاثة قروء، وهذا الأمر لا يكون إلا لمن طلقت بعد الطهر وقبل الجماع، فأما من استبان حملها فلا تؤمر بذلك. ومن شك هل هي حامل أم لا، لو كان طلاقها جائزا لم تؤمر بذلك، بل يقال لها: انظري، فإن كنت حاملا فعدتك الحمل، وإن كنت حائلا فعدتك القروء. فلما كان الله تعالى أمر المطلقات بتربص ثلاثة قروء، وأمره لم يتناول هذه المشكوك فيها، لم تدخل في الآية. فتبين بذلك بطلان قولهم إن الآية تناولتها.

ثم نقول: إذا كان في هذه الآية أمر كل مطلقة بعد الدخول بتربص ثلاثة قروء، وإن كانت من أولات الأحمال فأجلها وضع الحمل، وهذه لا تؤمر عقب الطلاق لا بهذا ولا بهذا، علم أنها ليست مطلقة، فدل على أنه لا طلاق لها.

ومما يوضح هذا أن الآية أمرت المطلقات بتربص ثلاثة قروء، [ ص: 254 ] وذلك من حين الطلاق، فهي من حين الطلاق تتربص، وهذه لو كانت مطلقة لم تؤمر بتربص ثلاثة قروء من حين الطلاق، ولا هي من أولات الأحمال، فعلم أنها ليست مطلقة.

ومما يوضح ذلك أن قوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إما أن يقال: إنها عامة في كل مطلقة، ثم استثنيت ذات الحمل، كما قال ذلك طائفة; وإما أن يقال: بل هي مختصة بغير ذات الحمل لم تتناول لغيرهن، فإن القرآن قد بين أن غير المدخول بها لا عدة عليها بقوله: إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها . ولهذا قال من قال: إن هذه الصورة مستثناة مخصوصة من هذا العموم.

وقد يقال: الآية لم تشمل غير المدخول بها، فإنه قد قال في سياقها: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، وقبل الدخول ليس لها حق في المعاشرة. وقال أيضا: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ، وهذا مختص بالمدخول بها، فغير المدخول بها يرجع إليه نصف مهرها الذي أعطاها، بقوله: وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم . ولأن قوله: ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن يتناول الحيض والولد. ومن لم يدخل بها ليس له منها ولد. [ ص: 255 ]

فإن قيل: قد يكون الضمير في آخرها أخص منه في أولها، كما قالوا: إن قوله والمطلقات يعم البائنات والرجعيات، وقوله وبعولتهن يختص بالرجعيات. وتنازعوا هل يقال: التخصيص في الضمير فقط أو التخصيص في أولها فقط؟ ليتطابق المضمر والمظهر، أو بالوقف؟ على ثلاثة أقوال، وهي أقوال معروفة .

قيل: هذا على قول من يقول: إن المطلقات فيهن بانت بعد الدخول، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، ثم رجع أحمد عن هذا، وقال: تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الرجعي. فظاهر مذهبه أن الطلاق بعد الدخول لا يكون رجعيا. وأما الثلاث فذاك هو الطلاق المحرم، وقد بينه بعد هذا بقوله: الطلاق مرتان ، أي الطلاق المذكور في الآية، وهو الرجعي.

وهذه الآية وأمثالها مما يستدل به على أن الطلاق بعد الدخول لا يكون إلا رجعيا، ولهذا يذكر الله فيه الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، وهو مما يدل على أن الخلع ليس بطلاق؛ لأنه لا رجعة فيه، فإن الله سماه افتداء، ولهذا كان لا رجعة فيه عند عامة العلماء، وهو في أحد القولين - وهو الثابت عن عثمان وابن عباس وغيرهما - أنها تستبرأ منه بحيضة، فلا تتربص ثلاثة قروء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول إسحاق وغيره وقول طائفة من السلف، وإذا كان فسخا لم يكن له عدد. فهذه خصائص الطلاق المذكورة في الآية، [ ص: 256 ] وهي ثلاثة: تربص ثلاثة قروء، واستحقاق البعل الرجعة، وأنه مرتان، ثلاثتها منفية في الخلع؛ لأنه افتداء افتدت به المرأة نفسها من زوجها كما يفتدي الأسير، فقد اشترت ذلك وعاوضت عليه. وقد يشبه بالإقالة أيضا، ولهذا قال من قال: ينبغي أن لا يكون بزيادة على المسمى كالإقالة.

وإذا قيل: هو فسخ، فهل يصح مع الأجنبي؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد.

أحدهما: لا يصح، فإنه حينئذ يكون كالإقالة، والإقالة لا تكون مع الأجنبي. وهذا قول أبي المعالي والرافعي، وقد ذكره أبو الخطاب وغيره من أصحاب أحمد.

والثاني: يصح مع الأجنبي، وهو الصحيح المشهور عند أصحاب أحمد، وكذلك ذكره العراقيون من أصحاب الشافعي، كأبي إسحاق الشيرازي في "نكته"، وذلك لأنه كافتداء الأسير، ويجوز بذل الأجنبي العوض في افتداء الأسير. وبسط هذا له موضع آخر .

والمقصود هنا أن القرآن من تدبره تدبرا تاما تبين له اشتماله على بيان الأحكام، وأن فيه من العلم ما لا يدركه أكثر الناس، وأنه يبين المشكلات ويفصل النزاع بكمال دلالته وبيانه إذا أعطي حقه، ولم تحرف كلمه عن مواضعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية