الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وذكر أبو داود عن ابن عباس من ستة أوجه أنه أوقع الثلاث بمن أوقعها بكلمة واحدة، من رواية مجاهد وسعيد بن جبير ومالك بن الحويرث وعطاء وعمرو بن دينار ومحمد بن إياس بن البكير. [ ص: 308 ]

وكان عطاء ونحوه يدخلون على ابن عباس مع العامة، وكان طاوس يدخل عليه مع الخاصة، وكذلك عكرمة مولاه كان من خاصته. فلهذا حمل من حمل قول ابن عباس على مثل فعل عمر، من أن هذا من العقوبات التي يجتهد فيها الأئمة، ليس شرعا لازما، وهو عقوبة لمن لم يتق الله. ولهذا كان ابن عباس يقول لمن يفتيه: لو اتقيت الله لجعل لك فرجا ومخرجا .

وأبو داود روى حديث حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر، قال ابن عباس: بلى! كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر، فلما رأى - يعني عمر - الناس قد تتايعوا فيها قال: أجيزهن عليهم.

ثم روى من حديث ابن علية عن أيوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس! وإن الله تعالى قال: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله قال: [ ص: 309 ]

يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن.

قلت: لا يقال مثل هذا الكلام إلا لمن علم أن جمع الثلاث محرم، ثم فعله عامدا لفعل المحرم، فإن هذا لم يتق الله بل تعدى حدوده. أما من لم يعلم أن ذلك محرم، ولا قامت [عليه] حجة بتحريم ذلك، ولو علم أنه محرم لم يفعله، فإن هذا لا يخرج عن التقوى بذلك، ولا يقال له: إنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، ولا يقال له: عصيت ربك.

ففي فتيا ابن عباس هذه ونحوها إيقاع الثلاث بمثل هذا لما تتايع الناس فيما نهوا عنه، فأجازه عليهم عمر ومن روي أنه وافقه، كعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهم الذين أجازوا الثلاث على [ ص: 310 ] الناس المتتايعين فيما نهوا عنه من ذلك، كما وافقوا عمر على أن حد في الخمر بثمانين لما كثر شرب الناس لها واستقلوا العقوبة بأربعين .

وكان عمر رضي الله عنه أحيانا ينفي في الخمر ويحلق الرأس فيغلظ عقوبتها بحسب الحاجة، إذ لم يكن من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها حد مقدر موقت القدر والصفة لا يزاد عليه ولا ينقص منه، كما في حد القذف، بل كان قدر العقوبة فيها وصفتها موكولة إلى اجتهاد الأئمة بحسب الحاجة، فمن أدناها أربعون بالجريد والنعال وأطراف الثياب، وهذا من أخف العقوبات قدرا وصفة، ثم أربعون بالسياط، وهذا أعلى في الصفة دون القدر، ثم ثمانون بالسياط، وهذا أعلى منهما. وهل يعاقب فيها بالقتل بعد الثالثة أو الرابعة إذا لم ينتهوا إلا بذلك؟ فيه أحاديث ونزاع ليس هذا موضعه .

فحديث عبد يزيد أو ركانة مروي من هذين الوجهين، وأقل أحواله حينئذ أن يكون حسنا، فإن الحسن عند الترمذي هو ما روي من وجهين ولم يعلم في رواته متهم بالكذب، ولم يعارضه ما يدل على غلطه، وهو من أحسن ما يحتج به الفقهاء. وقد يقال: هو صحيح، وابن حبان وإن كان قد صحح حديث البتة فإنه يصحح حديث ابن إسحاق هو وغيره كابن خزيمة وابن حزم وغيرهما، [ ص: 311 ] وابن حزم وغيره يضعفون حديث البتة كما ضعفه أحمد رحمه الله.

وابن إسحاق إمام حافظ، لكن يخاف أن يدلس ويخلط الأحاديث بعضها ببعض، فإذا قال "حدثني" زالت الشبهة. وقد ذكر أن داود بن الحصين حدثه وعمل بما حدثه به.

ولا يستريب أهل العلم بالحديث أن هذا الإسناد أرجح من إسناد البتة، هذا لو انفرد، وأما مع موافقته لحديث أبي الصهباء الذي في صحيح مسلم فإن ذلك مما يؤكد الاحتجاج بذلك الحديث، ويرد على من علله بما لا يقدح في صحته، كقول من قال: إن ابن عباس روي عنه بخلافه، فصار حديث عكرمة يروى عن ابن عباس من وجهين، وجهالة الراوي في أحدهما كجهالة أولاد ركانة، فإنهم لا يعرفون بعلم ولا حفظ. والإسناد الآخر رجاله من مشاهير أهل العلم والفقه والصدق. وحديث طاوس عن ابن عباس الذي لا ريب في صحته موافق، فصارت الأحاديث بأن الثلاث كانت واحدة يصدق بعضها بعضا، ولم يرو أحد من أهل العلم حديثا ثابتا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزم بثلاث مفرقة.

التالي السابق


الخدمات العلمية