الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب السابع والأربعون في سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات السلاسل في جمادى الآخرة سنة ثمان

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عقبة وابن إسحاق ، وابن سعد ، ومحمد بن عمر رحمهم الله تعالى واللفظ له :

                                                                                                                                                                                                                              «بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة يريدون أن يدنوا إلى أطراف مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص بعد إسلامه بسنة» .

                                                                                                                                                                                                                              وعند ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرا يستنفر العرب إلى الشام ، فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ، وأمره أن يستعين بمن مر به من العرب : من بلي ، وعذرة ، وبلقين ، وذلك أن عمرا كان ذا رحم فيهم ، كانت أم العاص بن وائل بلوية ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتألفهم بعمرو .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث بريدة عند إسحاق بن راهويه أن أبا بكر قال : «إن عمرا لم يستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لعلمه بالحرب» . انتهى . وكان معه ثلاثون فرسا ، فكان يكمن النهار ويسير الليل حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلاسل ويقال السلسل وبذلك سميت الغزوة ذات السلاسل بلغه أن لهم جمعا كثيرا فبعث عمرو رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أن لهم جمعا كثيرا ويستمده . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه ، وعقد له لواء ، وبعث معه سراة المهاجرين كأبي بكر وعمر بن الخطاب ، وعدة من الأنصار رضي الله تعالى عنهم . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة أن يلحق بعمرو بن العاص وأن يكونا جميعا ولا يختلفا- وكان أبو عبيدة في مائتي رجل حتى لحق بعمرو- فلما قدموا أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو : «إنما قدمت علي مددا لي وليس لك أن تؤمني وأنا الأمير» .

                                                                                                                                                                                                                              فقال المهاجرون : «كلا بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه» . فقال عمرو : ، «لا ، أنتم مدد لنا» . فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف وكان رجلا لينا حسن الخلق سهلا هينا عليه أمر الدنيا ، يسعى لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده قال : «يا عمرو تعلمن أن آخر شيء عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال : «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا ، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك» . وأطاع أبو عبيدة عمرا . فكان عمرو يصلي بالناس . وقال عمرو : «فإني الأمير عليك وأنت مددي» . قال : «فدونك» . [ ص: 168 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد عن الشعبي مرسلا قال : «انطلق المغيرة بن شعبة إلى أبي عبيدة فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعملك علينا وإن ابن فلان قد اتبع أمير القوم فليس لك معه أمر» . فقال أبو عبيدة : «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتطاوع فأنا أطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عصاه عمرو» انتهى . فأطاع أبو عبيدة عمرا فكان عمرو يصلي بالناس ، وصار معه خمسمائة ، فسار حتى نزل قريبا منهم وهم شاقون ، فجمع أصحابه الحطب يريدون أن يوقدوا نارا ليصطلوا عليها من البرد ، فمنعهم ، فشق عليهم ذلك ، حتى كلمه في ذلك بعض المهاجرين فغالظه .

                                                                                                                                                                                                                              فقال له عمرو : «قد أمرت أن تسمع لي» . قال : نعم . قال : فافعل .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن حبان ، والطبراني برجال الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في غزوة ذات السلاسل فسأله أصحابه أن يوقدوا نارا فمنعهم . فكلموا أبا بكر رضي الله تعالى عنه ، فكلمه فقال : «لا يوقد أحد منهم نارا إلا قذفته فيها» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحاكم عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال : «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في سرية فيهم أبو بكر ، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما ، فلما انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو ألا يوقدوا نارا فغضب عمر بن الخطاب وهم أن يأتيه ، فنهاه أبو بكر وأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستعمله إلا لعلمه بالحرب . فهدأ عنه ، فسار عمرو الليل وكمن النهار حتى وطئ بلاد العدو ودوخها كلها حتى انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان به جمع فلما سمعوا به تفرقوا ، فسار حتى إذا انتهى إلى أقصى بلادهم ولقي في آخر ذلك جمعا ليسوا بالكثير ، فاقتتلوا ساعة وحمل المسلمون عليهم فهزموهم وتفرقوا ودوخ عمرو ما هنالك وأقام أياما لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه [إلا قاتلهم] . وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم فكانوا ينحرون ويأكلون ولم يكن أكثر من ذلك ، لم يكن في ذلك غنائم تقسم ، كذا قال جماعة .

                                                                                                                                                                                                                              قال البلاذري فلقي العدو من قضاعة وعاملة ، ولخم ، وجذام ، وكانوا مجتمعين ففضهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم . وروى ابن حبان والطبراني عن عمرو أنهم لقوا العدو ، فأراد المسلمون أن يتبعوهم فمنعهم . وبعث عمرو عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه بشيرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقفولهم وسلامتهم وما كان في غزاتهم . [ ص: 169 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية