الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 322 ] الباب السادس في أمر الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بإظهار الإسلام

                                                                                                                                                                                                                              قال الله سبحانه وتعالى : فاصدع فاظهر بما تؤمر بالقرآن وما فيه من الأحكام .

                                                                                                                                                                                                                              وأصل الصدع : الشق والبينونة أو أصله الشق في الشيء الصلب كالزجاج ثم استعير لغيرها . أي اكشف الحق وأبنه عن غيره وأعرض عن المشركين [الحجر 94] اكفف عنهم ولا تبال بهم ، والكف عنهم نسخ بآية السيف .

                                                                                                                                                                                                                              وقال تعالى : وأنذر ، خوف عشيرتك الأقربين [الشعراء 214] وهم بنو هاشم وبنو المطلب وقد أنذرهم جهارا .

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن سعد عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاء به من عند الله وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إلى الله تعالى ، فدعا في أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفيا إلى أن أمر بظهور الدعاء .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البلاذري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرا أربع سنين .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أيضا عن جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم قال : لما نزلت على النبي : وأنذر عشيرتك الأقربين اشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وضاق به ذرعا ، فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته حتى ظن عماته أنه شاك فدخلن عليه عائدات فقال : ما اشتكيت شيئا لكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فأردت جمع بني عبد المطلب لأدعوهم إلى الله تعالى قلن : فادعهم ولا تجعل عبد العزى فيهم- يعني أبا لهب ، فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه .

                                                                                                                                                                                                                              وخرجن من عنده فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا ومعهم عدة من بني عبد مناف وجميعهم خمسة وأربعون رجلا وسارع إليه أبو لهب وهو يظن أنه يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون ، فلما اجتمعوا قال أبو لهب : هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم بما تريد ودع الصلاة ، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة وإن أحب من أخذك فحبسك أسرتك وبنو أبيك إن أقمت على أمرك فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدها العرب ، فما رأيت يا ابن أخي أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بشر مما جئتهم به .

                                                                                                                                                                                                                              فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلم في ذلك المجلس ومكث أياما وكثر عليه كلام أبي لهب ، فنزل عليه جبريل عليه السلام فأمره بإمضاء ما أمره الله به وشجعه عليه ، فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانية فقال : الحمد الله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . ثم قال : إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعا [ ص: 323 ]

                                                                                                                                                                                                                              ما كذبتكم ولو غررت الناس ما غررتكم ، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة ، والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ، ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها للجنة أبدا أو النار أبدا ، وإنكم لأول من أنذر ، ومثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف يا صباحاه .

                                                                                                                                                                                                                              فقال أبو طالب : ما أحب إلينا معاونتك ومرافدتك وأقبلنا لنصحك وأشد تصديقنا لحديثك ، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون وإنما أنا أحدهم ، غير أني والله أسرعهم إلى ما تحب فامض لما أمرت به فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك ، غير أني لا أجد نفسي تطوع إلى فراق دين عبد المطلب حتى أموت على ما مات عليه .

                                                                                                                                                                                                                              وتكلم القوم كلاما لينا غير أبي لهب فإنه قال : يا بني عبد المطلب هذه والله السوءة خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم وإن منعتموه قتلتم .

                                                                                                                                                                                                                              فقال أبو طالب : والله لنمنعنه ما بقينا .

                                                                                                                                                                                                                              وقالت صفية بنت عبد المطلب لأبي لهب : أي أخي أيحسن بك خذلان ابن أخيك وإسلامه؟ فوالله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضئ عبد المطلب نبي فهو هو . فقال : هذا والله الباطل والأماني وكلام النساء في الحجال ، إذا قامت بطون قريش كلها وقامت معها العرب فما قوتنا بهم؟ فوالله ما نحن عندهم إلا إكلة رأس
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان والبلاذري عن ابن عباس ، والشيخان عن أبي هريرة ، ومسلم عن قبيصة بن المخارق رضي الله عنهم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه وأنذر عشيرتك الأقربين قام على الصفا فعلا أعلاها حجرا ثم نادى : يا صباحاه . فقالوا من هذا؟ وجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش فاجتمعوا إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا .

                                                                                                                                                                                                                              فقال : يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنقذ نفسك من النار فإني لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفية عمة محمد ، ويا فاطمة بنت محمد أنقذا أنفسكما من النار فإني لا أملك لكما من الله شيئا ، غير أن لكما رحما سأبلها ببلالها ، إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد . [ ص: 324 ]

                                                                                                                                                                                                                              فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟

                                                                                                                                                                                                                              فنزلت : تبت يدا أبي لهب إلى آخرها
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد والبيهقي وأبو نعيم عن علي وأبو نعيم عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهم قال : لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا علي اصنع لنا رجل شاة على صاع من طعام . وفي رواية : مد . وأعد لنا عس لبن ثم اجمع بني عبد المطلب .

                                                                                                                                                                                                                              قال علي : ففعلت ، فاجتمعوا له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه ، منهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، فقدمت إليهم تلك الجفنة ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حذية فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها وقال : كلوا باسم الله . فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما ترى إلا آثار أصابعهم ، والله إن كان الرجل الواحد ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم . ثم قال : اسق القوم ، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا ، والله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله . وفي رواية من يأكل المسنة ويشرب العس .

                                                                                                                                                                                                                              فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لهد ما سحركم صاحبكم . فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              فلما كان الغد قال يا علي عد لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ففعلت ثم جمعتهم إليه فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس فأكلوا وشربوا حتى نهلوا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بني عبد المطلب ، والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة . ثم قال : من يؤازرني على ما أنا عليه؟ قال علي :

                                                                                                                                                                                                                              فقلت : أنا يا رسول الله وإني أحدثهم سنا وسكت القوم . ثم قالوا : يا أبا طالب ألا ترى ابنك .

                                                                                                                                                                                                                              قال : دعوه فلن يألو ابن عمه خيرا
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية