الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                              جماع أبواب معراجه صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              قد كنت أفردت كتابا حافلا في هذا الباب سميته : «الآيات البينات في معراج سيد أهل الأرض والسماوات» ، ثم ظفرت بأشياء لم يتيسر الوقوف عليها إذ ذاك ، فجمعت كتابا آخر سميته : «الفضل الفائق في معراج خير الخلائق» ، فاجتمع فيه فوائد ونفائس لا توجد مجموعة إلا فيه ، فرأيت أن أذكر هنا خلاصته . [ ص: 4 ]

                                                                                                                                                                                                                              الباب الأول في بعض فوائد قوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [الإسراء 1] .

                                                                                                                                                                                                                              الكلام على هذه الآية من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : في سبب نزولها :

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام العالم العلامة أبو حيان أثير الدين محمد بن يوسف الغرناطي -بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وبالطاء المهملة- في تفسيره المسمى بالنهر : «سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الإسراء به كذبوه ، فأنزلها الله تعالى» .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : في وجه اتصال هذه السورة بما قبلها :

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام فخر الدين الرازي ، والبرهان النسفي : «وجه الاتصال بما قبلها أن في تلك السورة ذكر الخليل صلى الله عليه وسلم ، وذكر أوصافه الشريفة ، وتشريعاته العلية من الحضرة الأزلية ، والأمر باتباع ملة الحنيفية ، والاقتداء به في العقائد الدينية ، وفي هذه السورة ذكر من اتبع ملته بالصدق ، وأقام سنته على الحق ، وفي آخر تلك السورة أمر نبينا صلى الله عليه وسلم : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [النحل 125] . وأمره بعد ذلك بالصبر فقال : واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون [النحل 127] والصبر هو التحمل للمكاره ، والتحمل من جملة ما يؤدي إلى التجمل ، ومنه ما ذكر في أول هذه السورة .

                                                                                                                                                                                                                              النهر : لما أمره الله تعالى بالصبر ، ونهاه عن الحزن عليهم ، وأن يضيق صدره من مكرهم ، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والشعر وغير ذلك مما رموه به ، فأعقب الله تعالى ذلك بشرفه وفضله واحتفائه به وعلو منزلته عنده .

                                                                                                                                                                                                                              الشيخ رحمه الله تعالى في مناسباته : «هذه السورة والأربعة بعدها من قديم ما نزل ، روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال في سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء : هن من العتاق الأول وهن من تلادي» .

                                                                                                                                                                                                                              التلاد - بكسر المثناة الفوقية وتخفيف اللام أي : مما حفظ قديما ، وهذا وجه في ترتيبها ، وهو اشتراكها في قدم النزول وكونها مكيات ، وكلها مشتملة على القصص .

                                                                                                                                                                                                                              وظهر لي في وجه اتصالها بسورة النحل أنه سبحانه وتعالى لما قال في آخرها : إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه [النحل 124] . فسر في هذه السورة شريعة أهل السبت وشأنهم ، فذكر فيها جميع ما شرع لهم في التوراة .

                                                                                                                                                                                                                              كما روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «التوراة كلها في خمس [ ص: 5 ]

                                                                                                                                                                                                                              عشرة آية من بني إسرائيل» . وذكر عصيانهم وفسادهم وتخريب مسجدهم ، ثم ذكر استفزازهم النبي صلى الله عليه وسلم وإرادتهم إخراجه من المدينة وسؤالهم إياه عن الروح . ثم ختم السورة بآيات موسى التسع ، وخطابه مع فرعون . وأخبر أن فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض فأهلك . وأرث بني إسرائيل الأرض من بعدهم . وفي ذلك تعريض بهم أنهم كما استفزوا النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ، فسيخرجون منها ويرثها هو وأصحابه كنظير ما وقع لهم مع فرعون لما استفزهم . وقد وقع ذلك أيضا . ولما كانت السورة مصدرة بتخريب المسجد الأقصى افتتحت بذكر إسراء سيدنا محمد المصطفى إليه ، تشريفا لحلول ركابه الشريف وجبرا لما وقع من تخريبه . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : في حكمة استفتاحها بالتسبيح :

                                                                                                                                                                                                                              ابن الجوزي في زاد المسير : الحكمة في الإتيان به هنا وجهان : أحدهما : أن العرب تسبح عند الأمر العجيب ، فكأن الله تعالى عجب خلقه بما أسدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإسراء به .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن يكون خرج مخرج الرد عليهم ، لأنه صلى الله عليه وسلم لما حدثهم عن الإسراء به كذبوه ، فيكون المعنى : تنزه الله تعالى أن يتخذ رسولا كذابا .

                                                                                                                                                                                                                              القاضي تاج الدين السبكي في تذكرته سأل الإمام : ما الحكمة في افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح والكهف بالتحميد؟ وأجاب بأن التسبيح حيث جاء قدم على التحميد نحو :

                                                                                                                                                                                                                              فسبح بحمد ربك [النصر 3] سبحان الله والحمد لله .

                                                                                                                                                                                                                              وأجاب ابن الزملكاني -بفتح الزاي واللام- : [أن] سورة سبحان لما اشتملت على الإسراء وكذب المشركون به النبي صلى الله عليه وسلم ، وتكذيبه تكذيب لله تعالى ، أتي «بسبحان» لتنزيه الله عز وجل عما ينسب إليه من الكذب ، وسورة الكهف لما نزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف وتأخير الوحي نزلت مبينة أن الله تعالى لم يقطع نعمته على نبيه ولا على المؤمنين ، بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب ، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : في الكلام على سبحان الله :

                                                                                                                                                                                                                              محمود الكرماني في «برهانه» : «كلمة استأثر الله تعالى بها ، فبدأ بالمصدر في بني إسرائيل ثم بالماضي في الصف والحشر لأنه أسبق ، ثم بالمضارع في الجمعة والتغابن ، ثم بالأمر في الأعلى استيعابا لهذه الكلمة من جميع جهاتها» ، انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : «فبدأ بالمصدر» أي بالاسم الموضوع موضع المصدر . [ ص: 6 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحاكم أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى «سبحان الله» ، فقال : «تنزيه الله من كل سوء» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله تعالى عنهما ، قال : «سبحان الله ، اسم يعظم الله تعالى به نفسه ويتحاشى به عن السوء» .

                                                                                                                                                                                                                              الماوردي رحمه الله تعالى : «هو ذكر يعظم الله تعالى به لا يصلح إلا له» .

                                                                                                                                                                                                                              وأما ما ذكر في قول الشاعر .

                                                                                                                                                                                                                              «سبحان من علقمة الفاخر» .

                                                                                                                                                                                                                              فعلى سبيل الشذوذ .

                                                                                                                                                                                                                              صاحب النظم : «السبح في اللغة التباعد ، يدل عليه قوله تعالى : إن لك في النهار سبحا طويلا [المزمل 7] ، أي تباعدا طويلا . فمعنى سبح الله تعالى : بعده عما لا ينبغي .

                                                                                                                                                                                                                              وللتسبيح معان أخر ذكرتها في كتاب : القول الجامع الوجيز الخادم للقرآن العزيز .

                                                                                                                                                                                                                              الإمام موفق الدين بن يعيش رحمه الله تعالى في شرح المفصل : «اعلم أنهم قد علقوا الأعلام على المعاني فأطلقوها على الأعيان ، فمن ذلك قولهم : سبحان ، وهو عندنا علم واقع على معنى التسبيح ، وهو مصدر معناه البراءة والتنزيه وليس منه فعل ، وإنما هو واقع التسبيح الذي هو المصدر في الحقيقة ، جعل علما على هذا المعنى فهو معرفة لذلك ، ولا ينصرف للتعريف وزيادة الألف والنون . وأما قول الشاعر : «سبحانه ثم سبحانا يعود له» ، ففي تنوينه وجهان : أن يكون ضرورة ، والثاني : أن يكون أراد الفكرة» .

                                                                                                                                                                                                                              الضياء بن العلج رحمه الله ، في البسيط : «لفظ المصدر لأنه مصدر سبح إذا قال :

                                                                                                                                                                                                                              سبحان الله ، ومدلول سبحان التنزيه لا اللفظ» .

                                                                                                                                                                                                                              قلنا : التسبيح بمعنى التنزيه أيضا لأن معنى سبحت نزهت الله تعالى ، فتطابقا حينئذ على معنى التنزيه ، فصح تعليق سبحان على التسبيح ، واستعماله علما قليل ، وأكثر استعماله مضافا إما إلى فاعله أو إلى مفعوله . فإذا أضيف فليس بعلم لأن الأعلام لا تضاف .

                                                                                                                                                                                                                              قال : وقيل «سبحان» في البيت مضاف حذف المضاف إليه للعلم به وليس بعلم» . [ ص: 7 ]

                                                                                                                                                                                                                              أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى في أماليه : «الدليل على أن سبحان علم للتسبيح قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                              قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر

                                                                                                                                                                                                                              ولولا أنه علم لوجب صرفه لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية» .

                                                                                                                                                                                                                              الشهاب السمين رحمه الله تعالى في إعرابه : «قيل هو مصدر لأنه سمع له فعل ثلاثي ، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة . وقد يفرد ، وإذا أفرد منع من الصرف للتعريف ، وزيادة الألف والنون كما في البيت السابق . وقد جاء منونا كقوله :


                                                                                                                                                                                                                              سبحانه ثم سبحانا يعود له     وقبلنا سبح الجودي والجمد

                                                                                                                                                                                                                              فقيل ضرورة ، وقيل هو بمنزلة قبل وبعد ، إن نوي تعريفه بقي على حاله ، وإن نكر أعرب ، منصرفا . وهذا البيت يساعد على كونه مصدرا لا اسم مصدر لوروده منصرفا . ولقائل القول الأول أن يجيب عنه بأن هذا نكرة لا معرفة . وهو من الأسماء اللازمة النصب على المصدرية فلا تنصرف . والناصب له فعل مقدر لا يجوز إظهاره» .

                                                                                                                                                                                                                              أبو شامة رحمه الله : «حيث جاء منصوبا نصب المفعول المطلق اللازم إضمار فعله ، وفعله إما فعل أمر أو خبر . وهو في هذه السورة محتمل للأمرين أي سبحوا الذي أسرى بعبده أو سبح الذي أسرى بعبده ، على أن يكون ابتداء ثناء الله تعالى على نفسه كقول (الحمد لله رب العالمين)» .

                                                                                                                                                                                                                              القرطبي رحمه الله تعالى : «العامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه لا من لفظه إذ لم يجئ من لفظه فعل ، وذلك مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء . فالتقدير عنده أنزه الله تعالى تنزيها ، فوقع «سبحان الله» مكان قولك تنزيها» . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              الزمخشري رحمه الله تعالى : «سبحان علم للتسبيح كعثمان لرجل وانتصابه بفعل [ ص: 8 ] مضمر [متروك إظهاره ، تقديره] أسبح الله سبحان . ثم نزل منزلة الفعل فسد مسده ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله» .

                                                                                                                                                                                                                              الطيبي رحمه الله تعالى : «وذلك في جلب هذا المصدر في أصل هذا التركيب للتوكيد ، وهو أسبح تسبيحا ثم أسبح سبحان ، ثم في حذف العامل وإقامته مقامه للدلالة على أن المقصود بالذات هو المصدر ، والفعل تابع ، فيفيد الإخبار بسرعة وجود التنزيه» .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن الكسائي أنه جعل منادى تقديره يا سبحانك ، وأباه الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                              السفاقسي والسمين : «ورد بأنه لم يسمع دخول حرف النداء عليه ، وزعم بعضهم أن لفظه لفظ التثنية ومعناه كذلك كلبيك . وهو غريب . ويلزمه أن يكون مفرده سبحا وألا يكون منصوبا بل مرفوعا ، وأن نونه لم تسقط بالإضافة وأن فتحها يلزم» .

                                                                                                                                                                                                                              ومن الغرائب أيضا ما حكاه الماوردي عن أبان بن تغلب- بالمثناة الفوقية والغين المعجمة- أن سبحان كلمة أصلها بالنبطية «شبهانك» فعربت «سبحانك» . والذي أضيف إلى سبحان مفعول به لأنه المسبح ، ويجوز أن يكون فاعلا لأن المعنى تنزه الذي أسرى بعبده .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية