الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الخامس : في الكلام على «أسرى» :

                                                                                                                                                                                                                              البرهان النسفي : قال أهل اللغة : أسرى وسرى لغتان . زاد غيره : يختصان بسير الليل .

                                                                                                                                                                                                                              السمين : فيكون سرى وأسرى كسقى وأسقى . والهمزة هنا ليست للتعدية ، خلافا لابن عطية ، وإنما المعدي الباء في «بعبده» . وتقدم في البقرة أنها لا تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول عند الجمهور ، خلافا للمبرد . وبسط الكلام على ذلك هنا وفي البقرة .

                                                                                                                                                                                                                              السفاقسي : الباء للتعدية وترادف الهمزة عند الجمهور خلافا للمبرد والسهيلي في أنها تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في الفعل بخلاف الهمزة حتى قال السهيلي : إذا قلت : قعدت به ، فلا بد من مشاركة ولو باليد . ورد عليهما بالآية : ذهب الله بنورهم [البقرة 17] لأن الله لا يوصف بالذهاب مع النور . ورد عليهما أيضا بقول الشاعر : [ ص: 9 ]

                                                                                                                                                                                                                              ديار التي كانت ونحن على منى تحل بنا لولا نجاء الركائب

                                                                                                                                                                                                                              أي تحلنا ، فالباء هنا للتعدية ، ولم تقتض المشاركة لأن الديار لم تكن حراما فتصير حلالا ، ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما ، فلا يقال : أذهبت بزيد .

                                                                                                                                                                                                                              وجزم ابن دحية - بفتح الدال وكسرها - وابن المنير ، بما قاله المبرد فقالا : «يؤخذ من قوله : «أسرى بعبده» ما لا يؤخذ إن قيل : بعث إلى عبده ، لأن الباء تفيد المصاحبة ، أي صحبه في مسراه بالإلطاف والعناية والإسعاف» . زاد ابن دحية : «ويشهد لذلك

                                                                                                                                                                                                                              قوله صلى الله عليه وسلم : «اللهم أنت الصاحب في السفر» .

                                                                                                                                                                                                                              ويؤخذ من ذلك أن من قال : لله علي أن أحج بفلان ، يلزمه الحج معه ، بخلاف ما لو قال : لله علي أن أحج فلانا ، فإنه يلزمه أن يجهزه للحج من ماله . والفرق بين الصورتين ما تعطيه الباء من المصاحبة» . انتهى . وتقدم رد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              الحافظ : «أسرى مأخوذ من السرى وهو سير الليل ، فقول العرب أسرى وسرى إذا سار ليلا ، هذا قول الأكثر» .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحوفي : أسرى سار ليلا ، وسرى سار نهارا» .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ في موضع آخر : «وقيل أسرى سار من أول الليل ، وسرى سار من آخره» وهذا أقرب . ولم يختلف القراء في أسرى ، بخلاف قوله تعالى في قصة لوط : فأسر بأهلك [هود 81] . فقرئت بالوصل والقطع ، وفيه تعقيب على من قال من أهل اللغة : أن أسرى وسرى بمعنى .

                                                                                                                                                                                                                              قال السهيلي : «السرى من سريت إذا سرت ليلا ، يعني فهو لازم . والإسراء يتعدى في المعنى ، لكن حذف مفعوله حتى ظن من ظن أنهما بمعنى واحد ، وإنما معنى «أسرى بعبده» ، جعل البراق يسري به ، كما تقول : أمضيت كذا أي جعلته يمضي ، لكن حذف المفعول لقوة الدلالة عليه ، والاستغناء عن ذكره ، إذ المقصود بالذكر المصطفى لا الدابة التي سارت به .

                                                                                                                                                                                                                              وأما قصة لوط فالمعنى : سر بهم على ما يتحملون عليه من دابة ونحوها ، هذا معنى قراءة القطع . ومعنى الوصل : سر بهم ليلا ، ولم يأت مثل ذلك في الإسراء ، إلا أنه لا يجوز أن يقال :

                                                                                                                                                                                                                              «سرى بعبده» بوجه من الوجوه» .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ والنسفي : «الذي جزم به هو من هذه الحيثية التي قصر فيها الإشارة إلى أنه سار ليلا على البراق . والآن لو قال قائل : سرت بزيد بمعنى صاحبته لكان المعنى صحيحا . [ ص: 10 ]

                                                                                                                                                                                                                              السادس : في الكلام على العبد :

                                                                                                                                                                                                                              أجمع المسلمون على أن المراد بالعبد هنا سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو لغة المملوك من نوع من يعقل . قال في المحكم : «العبد الإنسان حرا كان أو رقيقا ، لأنه مملوك لبارئه» . وقال غيره : «إنه مشتق من التعبد وهو التذلل» .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن الأنباري : «العبد الخاضع لله من قولهم : طريق معبد إذا كان قد وطئها الناس» .

                                                                                                                                                                                                                              وللإمام جمال الدين بن مالك بيتان في جموع عبد ، وذيل الشيخ رحمة الله عليهما بمثلهما ووطأ قبلهما ببيت ، فقال :


                                                                                                                                                                                                                              جموع لعبد لابن مالك نظمها     وزدت عليها مثلها فاستفد وجد
                                                                                                                                                                                                                              عباد عبيد جمع عبد وأعبد     أعابد معبودا معبدة عبد
                                                                                                                                                                                                                              كذلك عبدان وعبدان أثبتا     كذاك العبدى وامدد إن شئت أن تمد
                                                                                                                                                                                                                              وقد زيد أعباد عبود عبدة     وخفف بفتح والعبدان إن تشد
                                                                                                                                                                                                                              وأعبدة عبدون ثمت بعدها     عبيدون معبودا بقصر فخذ تسد

                                                                                                                                                                                                                              الإسنوي رحمه الله تعالى : «قال سيبويه : العبد في الأصل صفة ، ولكنه استعمل استعمال الأسماء» .

                                                                                                                                                                                                                              الشيخ زكريا رحمه الله تعالى في فتح الرحمن «قال تعالى : «بعبده» دون نبيه أو حبيبه لئلا تضل أمته أو لأن وصفه بالعبودية المضافة إلى الله تعالى أشرف المقامات» . [ ص: 11 ]

                                                                                                                                                                                                                              الأستاذ أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى : «ليس للمؤمن صفة أتم ولا أشرف من العبودية ، ولهذا أطلقها الله تعالى على نبيه في أشرف المواطن ، كقوله : سبحان الذي أسرى بعبده [الإسراء 1] ، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [الكهف 1] ، فأوحى إلى عبده ما أوحى

                                                                                                                                                                                                                              [النجم 10] ، تبارك الذي نزل الفرقان على عبده [الفرقان 1] .

                                                                                                                                                                                                                              الشيخ عبد الباسط البلقيني رحمه الله : «ومن هنا يؤخذ الجواب عن وصفه صلى الله عليه وسلم بذلك ووصف يحيى عليه السلام بالسيادة في قوله تعالى : وسيدا وحصورا [آل عمران 39] .

                                                                                                                                                                                                                              الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله : «في معناه أنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                              يا قوم قلبي عند زهراء     يعرفه السامع والرائي
                                                                                                                                                                                                                              لا تدعني إلا بيا عبدها     فإنه أشرف أسمائي»

                                                                                                                                                                                                                              العوفي رحمه الله : «والسبب في ذلك أن الإلهية والسيادة والربوبية إنما هي في الحقيقة لله عز وجل لا غير . والعبودية في الحقيقة لمن دونه . فإذا كان في مقام العبودية فهو في رتبته الحقيقية ، والرتبة الحقيقية أشرف المراتب إذ ليس بعد الحقيقة إلا المجاز ، ولا بعد الحق إلا الضلال» .

                                                                                                                                                                                                                              البرهان النسفي رحمه الله : «قيل لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعراج ، أوحى الله تعالى إليه : يا محمد ، أشرفك؟ قال : يا رب تنسبني إلى نفسك بالعبودية ، فأنزل الله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده الآية .

                                                                                                                                                                                                                              وأقوال القوم في العبد والعبودية كثيرة ، والألفاظ مختلفة معانيها ، وكل أحد يتكلم [ ص: 12 ] بلسان حاله على قدر مقامه ، فقال أبو حفص النيسابوري رحمه الله : «العبد هو القائم إلى أوامر سيده على حد النشاط حيث جعله محل أمره» .

                                                                                                                                                                                                                              ابن عطاء رحمه الله : «العبد الذي لا ملك له» .

                                                                                                                                                                                                                              الجريري- بفتح الجيم- : «حقيقة العبد هو الذي يتخلق بأخلاق ربه» .

                                                                                                                                                                                                                              رويم رحمه الله تعالى : «يتحقق العبد بالعبودية إذا أسلم القياد من نفسه وتبرأ من حوله وقوته ، وعلم أن الكل له وبه» .

                                                                                                                                                                                                                              عبد الله بن محمد رحمه الله : «حزت صفة العبودية إن كنت لا ترى لنفسك ملكا ، وتعلم أنك لا تملك لها نفعا ولا ضرا . ورحم الله من قال :


                                                                                                                                                                                                                              وكنت قديما أطلب الوصل منهم     فلما أتاني الحلم وارتفع الجهل
                                                                                                                                                                                                                              تيقنت أن العبد لا مطلب له     فإن قربوا فضل وإن أبعدوا عدل
                                                                                                                                                                                                                              وإن أظهروا لم يظهروا غير وصفهم     وإن ستروا فالستر من أجلهم يحلو

                                                                                                                                                                                                                              الإمام الرازي رحمه الله ، دل قوله بعبده على أن الإسراء كان بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن العبد اسم للجسد والروح ، قال تعالى : أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى [العلق : 9 ، 10] .

                                                                                                                                                                                                                              السابع : في الكلام على قوله تعالى : «ليلا» .

                                                                                                                                                                                                                              الحافظ رحمه الله تعالى : «ليلا ظرف للإسراء وهو للتأكيد ، وفائدته رفع توهم المجاز ، لأنه قد يطلق على سير النهار أيضا ، ويقال بل هو إشارة إلى أن ذلك وقع في بعض الليل لا في جميعه ، والعرب تقول : سرى فلان ليلا إذا سار بعضه ، وسرى في ليلة إذا سار في جميعها . ولا يقال أسرى ليلا إلا إذا وقع سيره في أثناء الليل ، وإذا وقع في أوله يقال أدلج ، ومن هذا قوله تعالى في قصة موسى وبني إسرائيل : فأسر بعبادي ليلا [الدخان : 23] ، أي من وسط الليل» .

                                                                                                                                                                                                                              أبو شامة رحمه الله تعالى : إنما نسب السرى إلى الليل لما كان السرى واقعا فيه كقوله تعالى : والنهار مبصرا [يونس : 67] ، أي يبصر فيه ، فهو من باب قوله : «ليل نائم وساهر ، أي يحصل فيه النوم والسهر ، وهذا باب من أبواب المجاز معروف» .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية