الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا]

وأخرج الشيخان عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه، فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» قالت عائشة : يا رسول الله، إنه رجل رقيق، إذا قام مقامك... لم يستطع أن يصلي بالناس، قال: «مري أبا بكر فليصل بالناس»، فعادت فقال: «مري أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف»، فأتاه الرسول، فصلى بالناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث متواتر.

[ ص: 145 ] ورد أيضا من حديث عائشة، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن زمعة، وأبي سعيد، وعلي بن أبي طالب، وحفصة - رضي الله عنهم -، وقد سقت طرقهم في «الأحاديث المتواترة».

وفي بعضها عن عائشة - رضي الله عنها -: ( لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وما حملني على كثرة مراجعته... إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، وإلا أني كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه.. إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر ).

وفي حديث ابن زمعة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة وكان أبو بكر غائبا فتقدم عمر فصلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، لا، لا، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، يصلي بالناس أبو بكر ».

وفي حديث ابن عمر : كبر عمر، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيره، فأطلع رأسه مغضبا فقال: «أين ابن أبي قحافة؟ !».

قال العلماء: في هذا الحديث أوضح دلالة على أن الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق، وأحقهم بالخلافة، وأولاهم بالإمامة.

[ ص: 146 ] قال الأشعري : (قد علم بالضرورة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الصديق أن يصلي بالناس مع حضور المهاجرين والأنصار، مع قوله: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» ، فدل على أنه كان أقرأهم: أي أعلمهم بالقرآن).انتهى.

وقد استدل الصحابة أنفسهم بهذا على أنه أحق بالخلافة، منهم: عمر، وسيأتي قوله في (فصل المبايعة).

ومنهم: علي، وأخرج ابن عساكر عنه قال: لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس وإني لشاهد، وما أنا بغائب وما بي مرض، فرضينا لدنيانا ما رضي به النبي صلى الله عليه وسلم لديننا ).

قال العلماء: وقد كان معروفا بأهلية الإمامة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد قال: كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم بعد الظهر، ليصلح بينهم وقال: «يا بلال، إن حضرت الصلاة ولم آت.. فمر أبا بكر فليصل بالناس» فلما حضرت صلاة العصر.. أقام بلال الصلاة، ثم أمر أبا بكر فصلى .

وأخرج أبو بكر الشافعي في « الغيلانيات»، وابن عساكر عن حفصة رضي الله عنها: أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أنت مرضت... قدمت أبا بكر ؟ قال: «لست أنا أقدمه، ولكن الله يقدمه».

[ ص: 147 ] وأخرج الدارقطني في «الأفراد»، والخطيب، وابن عساكر عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت الله أن يقدمك ثلاثا، فأبى علي إلا تقديم أبي بكر ».

وأخرج ابن سعد عن الحسن قال: قال أبو بكر : يا رسول الله، ما أزال أراني أطأ في عذرات الناس؟ قال: «لتكونن من الناس بسبيل» قال: ورأيت في صدري كالرقمتين؟ قال: «سنتين».

وأخرج ابن عساكر عن أبي بكرة قال: ( أتيت عمر وبين يديه قوم يأكلون، فرمى ببصره في مؤخر القوم إلى رجل، فقال: ما تجد فيما تقرأ قبلك من الكتب؟ قال: خليفة النبي صلى الله عليه وسلم صديقه .

وأخرج ابن عساكر عن محمد بن الزبير قال: (أرسلني عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري أسأله عن أشياء، فجئته، فقلت له: اشفني فيما اختلف فيه الناس، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر ؟ فاستوى الحسن قاعدا فقال: أوفي شك هو لا أبا لك؟ ! إي والله الذي لا إله إلا هو لقد استخلفه، ولهو كان أعلم بالله، وأتقى له، وأشد له مخافة من أن يموت عليها لو لم يؤمره).

وأخرج ابن عدي عن أبي بكر بن عياش قال: (قال لي الرشيد: يا أبا بكر ، كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق ؟ قلت: يا أمير المؤمنين، سكت الله، وسكت رسوله، وسكت المؤمنون، قال: والله، ما زدتني إلا غما!!

قلت: يا أمير المؤمنين، مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أيام، فدخل عليه بلال فقال: يا رسول الله، من يصلي بالناس؟ قال: «مر أبا بكر يصلي بالناس» فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام، والوحي ينزل، فسكت [ ص: 148 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم لسكوت الله، وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه فقال: بارك الله فيك).


التالي السابق


الخدمات العلمية