الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة :

                                                                                                                                                                                                              روى عبد الله بن عبد الحكم عن أشهب عن مالك قال : يقول الله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } ؟ فاللعب بالشطرنج والنرد من الضلال .

                                                                                                                                                                                                              وروى يونس عن أشهب قال : سئل يعني مالكا عن اللعب بالشطرنج قال : لا خير فيه ، وليس بشيء وهو من الباطل ، واللعب كله من الباطل ، وأنه ينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل . وقد قال عمر بن الخطاب لأسلم في شيء : أما تنهاك لحيتك هذه ؟ قال أسلم : فمكثت زمانا وأنا أظن أنها ستنهاني . فقيل لمالك لما كان عمر لا يزال يقول فيكون . فقال : نعم [ في رأيي ] .

                                                                                                                                                                                                              وروى يونس عن ابن وهب عن مالك أنه سئل عن الرجل يلعب مع امرأته في بيته . فقال مالك : ما يعجبني ذلك ، وليس من شأن المؤمنين اللعب ; يقول الله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } ، وهذا من الباطل .

                                                                                                                                                                                                              وروى محمد بن خداش عن مالك أنه سئل عن اللعب بالشطرنج قال : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } . رواه عبد العزيز الجهني ; قال : قلت لمالك بن أنس : أدعو الرجل لعبثي . فقال مالك : أذلك من الحق ؟ قلت : لا . قال : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } . [ ص: 10 ]

                                                                                                                                                                                                              قال القاضي الإمام : هذا منتهى ما تحصل لي من ألفاظ مالك في هذه المسألة ، وقد اعترض بعض المتقدمين عليه من المخالفين ، فقال : ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال ; لأن أولها : { فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال } فهذا في الإيمان والكفر يعني ليس في الأعمال .

                                                                                                                                                                                                              وأجاب عن ذلك بعض علماء المتقدمين ، فقال : إن الكفر تغطية الحق ، وكل ما كان من غير الحق يجري هذا المجرى . هذا منتهى السؤال والجواب .

                                                                                                                                                                                                              وتحقيقه أن يقال : إن الله أباح وحرم ، فالحرام ضلال ، والمباح هدى ; فإن كان المباح حقا كما اتفق عليه العلماء فالشطرنج من المباح ، فلا يكون من الضلال ; لأن من استباح ما أباح الله لا يقال له ضال ، وإن كان الشطرنج خارجا من المباح فيفتقر إلى دليل ، فإذا قام الدليل على أنه حرام فحينئذ يكون من الضلال الذي تضمنته هذه الآية ، وقد قدمنا القول فيه ، وأن قول الشافعية أنه يخالف النرد ; لأن فيه إكداد الفهم ، واستعمال القريحة ، والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه ، كالاستقسام بالأزلام .

                                                                                                                                                                                                              وقال علماؤنا : إن الحديث الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من لعب بالنردشير فقد غمس يده في لحم الخنزير ودمه } يوجب النهي عن الشطرنج ; لأن الكل يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، والفهم يكد في كل واحد منهما وإن تفاضلا فيه .

                                                                                                                                                                                                              وأما لعب الرجل مع امرأته بالأربع عشرة فالممتنع لا تفترق فيه المرأة تكون للرجل ولا الأجنبي منه ، كما لا يجوز له أن يلعب معها بالنردشير لعموم النهي فيه ، والأربع عشرة قمار مثله .

                                                                                                                                                                                                              وأما الغناء فإنه من اللهو المهيج للقلوب عند أكثر العلماء ، منهم مالك بن أنس ، وليس في القرآن ولا في السنة دليل على تحريمه . [ ص: 11 ]

                                                                                                                                                                                                              أما إن في الحديث الصحيح [ دليلا على ] إباحته ، وهو الحديث الصحيح { أن أبا بكر دخل على عائشة وعندها جاريتان حاديتان من حاديات الأنصار ، تغنيان بما تقاولت الأنصار به يوم بعاث ، فقال أبو بكر : أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله : دعهما يا أبا بكر ، فإنه يوم عيد } فلو كان الغناء حراما ما كان في بيت رسول الله .

                                                                                                                                                                                                              وقد أنكره أبو بكر بظاهر الحال ، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم بفضل الرخصة والرفق بالخليقة في إجمام القلوب ; إذ ليس جميعها يحمل الجد دائما .

                                                                                                                                                                                                              وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يوم عيد يدل على كراهية دوامه ، ورخصته في الأسباب كالعيد ، والعرس ، وقدوم الغائب ، ونحو ذلك من المجتمعات التي تؤلف بين المفترقين والمفترقات عادة . وكل حديث يروى في التحريم أو آية تتلى فيه فإنه باطل سندا ، باطل معتقدا ، خبرا وتأويلا ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الغناء في العيدين ، وفي البكاء على الميت من غير نوح من حديث ثابت ابن وديعة .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية