الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب الاجتهاد في العشر الأواخر وفضل قيام ليلة القدر وما يدعى به فيها وأي ليلة هي ؟

                                                                                                                                            1769 - ( عن عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر } . متفق عليه . ولأحمد ومسلم : { كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها } )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            . قوله : ( أحيا الليل ) فيه استعارة الإحياء للاستيقاظ : أي سهره فأحياه بالطاعة وأحيا نفسه بسهره فيه ; لأن النوم أخو الموت . والحديث فيه دليل على مشروعية الحرص على [ ص: 320 ] مداومة القيام في العشر الأواخر من رمضان وإحيائها بالعبادة واعتزال النساء ، وأمر الأهل بالاستكثار من الطاعة فيها قوله : ( وأيقظ أهله ) أي للصلاة . وفي الترمذي عن أم سلمة : { لم يكن صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيل القيام إلا أقامه } قوله : ( وشد المئزر ) أي اعتزل النساء كما رواه عبد الرزاق عن الثوري وابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش . وحكي في الفتح عن الخطابي أنه يحتمل أن يراد به الجد في العبادة كما يقال : شددت لهذا الأمر مئزري : أي شمرت له ، ويحتمل أن يراد التشمير والاعتزال معا . ويحتمل أن يراد حقيقته ، والمجاز كمن يقول : طويل النجاد لطويل القامة ، وهو طويل النجاد حقيقة ، يعني شد مئزره حقيقة واعتزل النساء وشمر للعبادة ، يعني فيكون كناية وهو يجوز فيها إرادة اللازم والملزوم . وقد وقع في رواية : " شد مئزره واعتزل النساء " فالعطف بالواو يقوي الاحتمال الأول كما قال الحافظ .

                                                                                                                                            1770 - ( وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه } رواه الجماعة إلا ابن ماجه ) . .

                                                                                                                                            1771 - ( وعن عائشة قالت : { قلت يا رسول الله ، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال . : قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني } رواه الترمذي وصححه ، وأحمد وابن ماجه وقالا فيه : أرأيت إن وافقت ليلة القدر ) . الحديث الأول قد تقدم مع شرحه في باب صلاة التراويح ، وأورده المصنف ههنا للاستدلال به على مشروعية قيام ليلة القدر . والحديث الثاني صححه الترمذي كما ذكر المصنف .

                                                                                                                                            وفيه دليل على إمكان معرفة ليلة القدر وبقائها ، وسيأتي الكلام على ذلك قوله : ( ليلة القدر ) اختلف في المراد بالقدر الذي أضيفت إليه الليلة فقيل هو التعظيم لقوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره } والمعنى أنها ذات قدر لنزول القرآن فيها ، أو لما يقع فيها من نزول الملائكة ، أو ما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة ، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر . وقيل القدر هنا : التضييق لقوله تعالى { : ومن قدر عليه رزقه } ومعنى التضييق فيها إخفاؤها عن العلم بتعيينها

                                                                                                                                            وقيل : القدر هنا بمعنى القدر بفتح الدال : الذي هو مؤاخي القضاء . والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة لقوله تعالى: { فيها يفرق كل أمر حكيم } وبه صدر النووي كلامه فقال : قال العلماء : سميت ليلة القدر لما يكتب [ ص: 321 ] فيها الملائكة من الأقدار لقوله تعالى: { فيها يفرق } الآية . ورواه عبد الرزاق وغيره من المفسرين بأسانيد صحيحة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم . وقال التوربشتي : إنما جاء القدر بسكون الدال ، وإن كان الشائع في القدر الذي يؤاخي القضاء فتح الدال ليعلم أنه لم يرد به ذلك وإنما أريد به تفصيل ما جرى به القضاء وإظهاره وتحديده في تلك السنة لتحصيل ما يلقى إليهم فيها مقدارا بمقدار . قوله : ( إنك عفو ) بفتح العين وضم الفاء وتشديد الواو صيغة مبالغة وفيه دليل على استحباب الدعاء في هذه الليلة بهذه الكلمات .

                                                                                                                                            1772 - ( وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين ، أو قال : تحروها ليلة سبع وعشرين يعني ليلة القدر } . رواه أحمد بإسناد صحيح ) .

                                                                                                                                            1773 - ( وعن ابن عباس { : أن رجلا أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إني شيخ كبير عليل يشق علي القيام ، فأمرني بليلة لعل الله يوفقني فيها لليلة القدر ، فقال : عليك بالسابعة } رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            1774 - ( وعن معاوية بن أبي سفيان { عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر قال : ليلة سبع وعشرين } رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            1775 - ( وعن زر بن حبيش قال : سمعت أبي بن كعب يقول وقيل له : إن عبد الله بن مسعود يقول : { من قام السنة أصاب ليلة القدر ، فقال أبي : والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف ما يستثني ووالله إني لأعلم أي ليلة هي ، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ، هي ليلة سبع وعشرين ، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها } . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            حديث ابن عباس أخرجه أيضا الطبراني في الكبير . قال في مجمع الزوائد : ورجال [ ص: 322 ] أحمد رجال الصحيح . وقد أخرج نحوه عبد الرزاق عن ابن عمر مرفوعا ، والمراد بالسابعة إما لسبع بقين أو لسبع مضين بعد العشرين . وحديث معاوية سكت عنه أبو داود والمنذري . ورجال إسناده رجال الصحيح .

                                                                                                                                            وفي الباب عن جابر بن سمرة عند الطبراني في الأوسط بنحو حديث ابن عمر وعن ابن مسعود عند الطبراني قال : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال : أيكم يذكر ليلة الصهباء قلت : أنا ، وذلك ليلة سبع وعشرين } ورواه ابن أبي شيبة عن عمر وحذيفة وناس من الصحابة .

                                                                                                                                            . وروى عبد الرزاق عن ابن عباس قال : " دعا عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن ليلة القدر ، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر قال ابن عباس : فقلت لعمر : إني لأعلم أو أظن أي ليلة هي قال عمر : أي ليلة هي ؟ فقلت : سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر ، فقال : من أين علمت ذلك ؟ فقلت : خلق الله سبع سماوات وسبع أرضين وسبعة أيام ، والدهر يدور في سبع ، والإنسان خلق من سبع ويأكل من سبع ويسجد على سبع ، والطواف والجمار وأشياء ذكرها ، فقال عمر : لقد فطنت لأمر ما فطنا له " . وقد أخرج نحو هذه القصة الحاكم ،

                                                                                                                                            وإلى أن ليلة القدر ليلة السابع والعشرين ذهب جماعة من أهل العلم ، وقد حكاه صاحب الحلية من الشافعية عن أكثر العلماء . وقد اختلف العلماء فيها على أقوال كثيرة ذكر منها في فتح الباري ما لم يذكره غيره ، وسنذكر ذلك على طريق الاختصار فنقول : القول الأول : أنها رفعت ، حكاه المتولي عن الروافض ، والفاكهاني عن الحنفية

                                                                                                                                            الثاني : أنها خاصة بسنة واحدة وقعت في زمنه صلى الله عليه وسلم ، حكاه الفاكهاني . الثالث : أنها خاصة بهذه الأمة ، جزم به جماعة من المالكية ، ونقله صاحب العمدة عن الجمهور من الشافعية واعترض بحديث أبي ذر عند النسائي قال : { قلت يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت ؟ فقال : بل هي باقية } واحتجوا بما ذكره مالك في الموطأ بلاغا : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقال أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية ، فأعطاه الله ليلة القدر } قال الحافظ : وهذا محتمل التأويل ، فلا يدع التصريح في حديث أبي ذر

                                                                                                                                            والرابع : أنها ممكنة في جميع السنة ، وهو المشهور عن الحنفية وحكي عن جماعة من السلف ، وهو مردود بكثير من أحاديث الباب المصرحة باختصاصها برمضان الخامس : أنها مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه .

                                                                                                                                            وروي عن ابن عمر وأبي حنيفة ، وبه قال ابن المنذر وبعض الشافعية ورجحه السبكي . السادس : أنها في ليلة معينة مبهمة ، قاله النسفي في منظومته . السابع : أنها أول ليلة من رمضان ، حكي عن أبي رزين العقيلي الصحابي ; وروى ابن أبي عاصم من حديث أنس قال : " ليلة القدر أول ليلة من رمضان " قال ابن أبي عاصم : لا نعلم أحدا قال ذلك غيره الثامن : أنها [ ص: 323 ] ليلة النصف من رمضان " حكاه ابن الملقن في شرح العمدة التاسع : أنها ليلة النصف من شعبان حكاه القرطبي في المفهم وكذا نقله السروجي عن صاحب الطراز العاشر : أنها ليلة سبع عشر من رمضان ودليله ما رواه ابن أبي شيبة والطبراني من حديث زيد بن أرقم قال : بلا شك ولا امتراء : " إنها ليلة سبع عشر من رمضان ليلة أنزل القرآن " وأخرجه أبو داود عن ابن مسعود الحادي عشر : أنها مبهمة في العشر الوسط حكاه النووي وعزاه الطبري إلى عثمان بن أبي العاص والحسن البصري

                                                                                                                                            وقال به بعض الشافعية الثاني عشر : أنها ليلة ثمان عشرة ذكره ابن الجوزي في مشكله الثالث عشر : ليلة تسع عشرة رواه عبد الرزاق عن علي وعزاه الطبري إلى زيد بن ثابت ووصله الطحاوي عن ابن مسعود الرابع عشر : أول ليلة من العشر الآخرة وإليه مال الشافعي وجزم به جماعة من أصحابه الخامس عشر مثل الذي قبله إن كان الشهر تاما وإن كان ناقصا فليلة إحدى وعشرين وهكذا في جميع العشر وبه جزم ابن حزم ودليله حديث أبي سعيد وعبد الله بن أنيس وأبي بكرة وسيأتي السادس عشر : ليلة اثنين وعشرين ودليله ما أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن أنيس { : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وذلك صبيحة إحدى وعشرين ، فقال : كم الليلة ؟ قلت : ليلة اثنين وعشرين فقال هي الليلة أو القابلة } السابع عشر ليلة ثلاث وعشرين ودليله حديث عبد الله بن أنيس الآتي

                                                                                                                                            وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة والتابعين الثامن عشر : أنها ليلة الرابع والعشرين ودليله ما رواه الطيالسي عن أبي سعيد مرفوعا { : ليلة القدر ليلة أربع وعشرين } وما رواه أحمد من حديث بلال بنحوه وفيه ابن لهيعة وروي ذلك عن ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة التاسع عشر : ليلة خمس وعشرين حكاه ابن الجوزي في المشكل عن أبي بكرة العشرون ليلة ست وعشرين قال الحافظ وهو قول لم أره صريحا إلا أن عياضا قال ما من ليلة من ليالي العشر الأخيرة إلا وقد قيل فيها : إنها ليلة القدر الحادي والعشرون : ليلة سبع وعشرين وقد تقدم دليله ومن قال به الثاني والعشرون : ليلة الثامن والعشرين وهذا لم يذكره صاحب الفتح ولكن ظاهر قول عياض المتقدم أنه قد قيل : إنها ليلة القدر قد أسقط في الفتح القول الثاني والعشرين وذكر الثالث والعشرين بعد الحادي والعشرين فلعله سقط عليه حكاية هذا القول وقد ثبت في بعض النسخ الثالث والعشرون أنها ليلة تسع وعشرين حكاه ابن العربي الرابع والعشرون : أنها ليلة الثلاثين حكاه عياض ورواه محمد بن نصر عن معاوية وأحمد عن أبي هريرة . الخامس والعشرون : أنها في أوتار العشر الأخيرة ودليله حديث عائشة الآتي في آخر الباب وكذلك حديث ابن عمر قال [ ص: 324 ] في الفتح : وهو أرجح الأقوال وصار إليه أبو ثور والمزني وابن خزيمة وجماعة من علماء المذاهب انتهى

                                                                                                                                            القول السادس والعشرون : مثله بزيادة الليلة الأخيرة ، ويدل عليه حديث أبي بكرة الآتي ، وقد أخرج أحمد من حديث عبادة بن الصامت ما يدل على ذلك . السابع والعشرون : تنتقل في العشر الأواخر كلها ، قاله أبو قلابة ، ونص عليه مالك والثوري وأحمد وإسحاق ، وزعم الماوردي أنه متفق عليه ، ويدل عليه حديث أبي سعيد الآتي . الثامن والعشرون : مثله إلا أن بعض ليالي العشر أرجى من بعض ; قال الشافعي : أرجاها ليلة إحدى وعشرين . التاسع والعشرون : مثل السابع والعشرين إلا أن أرجاها ليلة ثلاث وعشرين ، ولم يذكر في الفتح قائله . الثلاثون : كذلك ، إلا أن أرجاها ليلة سبع وعشرين ، ولم يحك صاحب الفتح من قاله الحادي والثلاثون : أنها تنتقل في جميع السبع الأواخر ، ويدل عليه حديث ابن عمر الآتي ، وقد اختلف أهل هذا القول هل المراد السبع من آخر الشهر أو آخر سبعة تعد من الشهر ؟ قال في الفتح : ويخرج من ذلك القول الثاني والثلاثون ، والثالث والثلاثون أنها تنتقل في النصف الأخير ، ذكره صاحب المحيط عن أبي يوسف ومحمد ، وحكاه إمام الحرمين عن صاحب التقريب . الرابع والثلاثون : ليلة ست عشرة أو سبع عشرة ، رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث عبد الله بن الزبير . الخامس والثلاثون : ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين ، رواه سعيد بن منصور من حديث أنس بإسناد ضعيف . السادس والثلاثون : أول ليلة من رمضان أو آخر ليلة منه ، رواه ابن أبي عاصم من حديث أنس بإسناد ضعيف

                                                                                                                                            السابع والثلاثون : ليلة تاسع عشرة أو إحدى عشرة أو ثلاث وعشرين رواه أبو داود من حديث ابن مسعود بإسناد فيه مقال ، وعبد الرزاق من حديث علي بسند منقطع ، وسعيد بن منصور من حديث عائشة بسند منقطع أيضا . الثامن والثلاثون : أول ليلة أو تاسع ليلة أو سابع عشرة أو إحدى وعشرين أو آخر ليلة ، رواه ابن مردويه في تفسيره عن أنس بإسناد ضعيف . التاسع والثلاثون : ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين ، ودليله حديث ابن عباس الآتي ، ولأحمد نحوه من حديث النعمان بن بشير . القول الأربعون : ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين ، ويدل عليه حديث ابن عباس الأتي ، وأخرج البخاري نحوه من حديث عبادة بن الصامت . الحادي والأربعون : أنها منحصرة في السبع الأواخر ، ويدل عليه حديث ابن عمر الآتي ، وفي الفرق بينه وبين القول الحادي والثلاثين خفاء . الثاني والأربعون : ليلة اثنين وعشرين أو ثلاث وعشرين ، ويدل عليه حديث عبد الله بن أنيس عند أحمد . الثالث والأربعون : أنها في أشفاع العشر الوسط والعشر الأواخر . قال الحافظ : قرأته بخط مغلطاي . الرابع والأربعون : أنها الليلة الثالثة من العشر الأواخر أو [ ص: 325 ] الخامسة منه ، رواه أحمد من حديث معاذ قال في الفتح : والفرق بينه وبين ما تقدم أن الثالثة تحتمل ليلة ثلاث وعشرين وتحتمل ليلة سبع وعشرين

                                                                                                                                            الخامس والأربعون : أنها في سبع أو ثمان من أول النصف الثاني ، رواه الطحاوي من حديث عبد الله بن أنيس ، هذا جملة ما ذكره الحافظ في الفتح أوردناه مختصرا مع زوائد مفيدة . ومما ينبغي أن يعد قولا خارجا عن هذه الأقوال قول الهادوية : إنها في تسع عشرة ، وفي الإفراد بعد العشرين من رمضان . واستدلوا على أنها في الإفراد بعد العشرين بها استدل به أهل القول الخامس والعشرين على أنها قد تكون في ليلة تسع عشرة بما أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { التمسوا ليلة القدر في سبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين } قال الهيثمي بعد أن ساقه في مجمع الزوائد : فيه أبو الهزم وهو ضعيف ، فيكون هذا القول هو السادس والأربعون ، وينبغي أن يجعل ما اشتمل عليه هذا الحديث القول السابع والأربعين . وأما كونها مبهمة في جميع السنة فلا ينبغي أن يجعل قولا خارجا عن هذه الأقوال لأنه عين القول الرابع منها . وأرجح هذه الأقوال هو القول الخامس والعشرون ، أعني أنها في أوتار العشر الأواخر . قال الحافظ : وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين



                                                                                                                                            قوله : ( وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها ) قد ورد لليلة القدر علامات أكثر ، لا تظهر إلا بعد أن تمضي منها : طلوع الشمس على هذه الصفة

                                                                                                                                            وروى ابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعا : { ليلة القدر طلقة لا حارة ولا باردة ، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة } .

                                                                                                                                            ولأحمد من حديث عبادة : { لا حر فيها ولا برد ، وإنها ساكنة صاحية وقمرها ساطع } وفي علامتها أحاديث : منها عن جابر بن سمرة عند ابن أبي شيبة وعن جابر بن عبد الله عند ابن خزيمة . وعن أبي هريرة عنده . وعن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة وعن غيرهم

                                                                                                                                            1776 - ( وعن أبي سعيد { أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان ، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير ، فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة ، ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه فقال : إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة ، ثم اعتكفت العشر الأوسط ، ثم أتيت فقيل لي إنها في العشر الأواخر ، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ، فاعتكف الناس معه ، قال : وإني أريتها ليلة وتر وإني أسجد في صبيحتها في طين وماء فأصبح من ليلة إحدى وعشرين ، وقد قام إلى الصبح فمطرت السماء فوكف المسجد فأبصرت الطين والماء ، فخرج [ ص: 326 ] حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه فيها الطين والماء ، وإذ هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر } متفق عليه ، لكن لم يذكر في البخاري : اعتكاف العشر الأول )

                                                                                                                                            قوله : ( العشر الأوسط ) هكذا في أكثر الروايات ، والمراد به العشر الليالي ، وكان القياس أن يوصف بلفظ التأنيث ; لأن مرجعها مؤنث ، لكن وصف بالمذكر على إرادة الوقت أو الزمان ، والتقدير الثلث كأنه قال : الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر . ووقع في الموطأ العشر الوسط بضم الواو والسين جمع وسط ، ويروى بفتح السين مثل كبر وكبر . ورواه الباجي في الموطإ بإسكانها على أنه جمع واسط كبازل وبزل ، وهذا يوافق رواية الأوسط قوله : ( في قبة تركية ) أي قبة صغيرة من لبود قوله : ( فأصبح من ليلة إحدى وعشرين ) في رواية للبخاري " فخرج في صبيحة عشرين " وظاهرها يخالف رواية الباب

                                                                                                                                            وقد قيل : إن المراد بقوله : فأصبح من ليلة إحدى وعشرين : أي من الصبح الذي قبلها وهو تعسف ، وقد وقع في البخاري ما هو أوضح من ذلك بلفظ { فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه } قوله : ( وروثة أنفه ) بالثاء المثلثة : وهي طرفه ، ويقال لها أيضا أرنبة الأنف كما جاء في رواية أخرى والحديث فيه دليل على أن ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان ، وقد تقدم بسط الكلام في ذلك .

                                                                                                                                            1777 - ( وعن عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها ، وأراني أسجد صبيحتها في ماء وطين ، قال : فمطرنا في ليلة ثلاث وعشرين ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه } . رواه أحمد ومسلم ، وزاد : وكان عبد الله بن أنيس يقول : ثلاث وعشرين ) . وفي الباب عن رجل من بني بياضة له صحبة مرفوعا عند إسحاق في مسنده قال : { قلت : يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها ، فمرني بليلة القدر ، فقال : انزل ليلة ثلاث وعشرين } وعن ابن عمر مرفوعا : { من كان متحريها فليتحرها ليلة سابعة قال : فكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس الطيب } .

                                                                                                                                            وعن ابن جريج عن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس أنه كان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين وروى عبد الرزاق من طريق يونس بن سيف سمع سعيد بن المسيب يقول : استقام كلام القوم على أنها ليلة ثلاث [ ص: 327 ] وعشرين .

                                                                                                                                            وروي نحو ذلك من طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة ومن طريق مكحول أنه كان يراها ليلة ثلاث وعشرين ، كذا قال في الفتح

                                                                                                                                            وقد استدل بحديث الباب من قال : إنها ليلة ثلاث وعشرين كما تقدم قوله : ( ويقول ثلاث وعشرين ) هكذا في معظم النسخ من صحيح مسلم وفي بعضها ثلاث وعشرون . قال النووي : وهذا ظاهر والأول جائز على لغة شاذة أنه يجوز حذف المضاف ويبقى المضاف إليه مجرورا : أي ليلة ثلاث وعشرين .

                                                                                                                                            1778 - ( وعن أبي بكرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { التمسوها في تسع بقين أو سبع بقين أو خمس بقين أو ثلاث بقين أو آخر ليلة } . قال : وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان صلاته في سائر السنة ، فإذا دخل العشر اجتهد . رواه أحمد والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            وفي الباب عن عبادة بن الصامت عند أحمد والحديث يدل على أن ليلة القدر ترجى مصادفتها لتسع ليال بقين من الشهر أو سبع أو خمس أو ثلاث أو آخر ليلة ، وهو أحد الأقوال المتقدمة . قال الترمذي في جامعه : وروي { عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر أنها ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين وآخر ليلة من رمضان }

                                                                                                                                            قال الشافعي : كان هذا عندي والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل عنه ، يقال له : نلتمسها في ليلة كذا ؟ فيقول : التمسوها في ليلة كذا . قال الشافعي : وأقوى الروايات عندي فيها ليلة إحدى وعشرين انتهى .

                                                                                                                                            1779 - ( وعن أبي نضرة عن أبي سعيد في حديث له { : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الناس فقال : يا أيها الناس إنها كانت أبينت ليلة القدر ، وإني خرجت لأخبركم بها ، فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فنسيتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، التمسوها في التاسعة والخامسة والسابعة } قال : قلت : يا أبا سعيد إنكم أعلم بالعدد منا ، فقال : أجل ، نحن أحق بذاك منكم ، قال : قلت : ما التاسعة والخامسة والسابعة ؟ قال : إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها اثنان وعشرون فهي التاسعة ، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة ، فإذا مضت خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة رواه أحمد ومسلم ) . [ ص: 328 ]

                                                                                                                                            قوله : ( يحتقان ) بالحاء المهملة وبعدها مثناة فوقية ثم قاف مشددة ، ومعناها يطلب كل واحد منهما حقه ويدعي أنه المحق ، وفيه أن المخاصمة والمنازعة مذمومة وأنها سبب للعقوبة المعنوية قوله : ( فإذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها اثنان وعشرون ) هكذا في بعض نسخ مسلم ، وفي أكثرها : " ثنتين وعشرين " بالياء . قال النووي : وهو أصوب ، والنصب بفعل محذوف تقديره : أعني ثنتين وعشرين انتهى . وجعل النصب على الاختصاص أصوب من الرفع بتقدير مبتدأ لأجل قوله بعد ذلك فهي التاسعة لأنه يصير تقدير الكلام فالتي تليها هي اثنان وعشرون فهي التاسعة ، ولا يخفى أنها عبارة ثانية بخلاف النصب على الاختصاص فإنه يصير التقدير : فالتي تليها أعني ثنتين وعشرين فهي التاسعة فإنها عبارة خالية عن ذلك . والحديث يدل على أن ليلة القدر يرجى وجودها في تلك الثلاث الليالي

                                                                                                                                            1780 - ( وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، ليلة القدر في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى } رواه أحمد والبخاري وأبو داود .

                                                                                                                                            وفي رواية : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هي في العشر في سبع يمضين أو في تسع يبقين } ، يعني ليلة القدر . رواه البخاري ) .

                                                                                                                                            قوله : ( في تاسعة تبقى ) يعني ليلة اثنين وعشرين قوله : ( في خامسة تبقى ) يعني ليلة ست وعشرين قوله : ( في سبع يمضين أو تسع يبقين ) هكذا رواية المصنف رحمه اللهبتقديم السين في الأولى والتاء في الثانية

                                                                                                                                            قال في الفتح : الأكثر بتقديم السين في الثاني وتأخيرها في الأول ، وبلفظ المضي في الأول والبقاء في الثاني ، وللكشميهني بلفظ المضي فيهما وفي رواية الإسماعيلي بتقديم السين في الموضعين انتهى . والمراد في سبع ليال تمضي من العشر الأواخر ، أو في تسع ليال تبقى منها ، فتكون في ليلة سبع وعشرين أو ليلة اثنين وعشرين ، وقد تقدم الخلاف في ذلك

                                                                                                                                            1781 - ( وعن ابن عمر { أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريا فليتحرها في السبع الأواخر . } أخرجاه ولمسلم قال : { أري رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أرى رؤياكم في العشر [ ص: 329 ] الأواخر فاطلبوها في الوتر منها } . ) .

                                                                                                                                            1782 - ( وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان } رواه مسلم والبخاري ، وقال : { في الوتر من العشر الأواخر } ) . قوله : ( أروا ليلة القدر ) أروا بضم أوله على البناء للمجهول : أي قيل لهم في المنام : إنها في السبع الأواخر . قال في الفتح : والظاهر أن المراد به أواخر الشهر . وقيل : المراد به السبع التي أولها ليلة الثاني والعشرين وآخرها ليلة الثامن والعشرين ، فعلى الأول لا تدخل له إحدى وعشرين ولا ثلاث وعشرين ، وعلى الثاني تدخل الثانية فقط ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين

                                                                                                                                            ويدل على الأول ما في البخاري في كتاب التعبير من صحيحه { أن ناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر ، وأن ناسا أروا أنها في العشر الأواخر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : التمسوها في السبع الأواخر } وكأنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى المتفق عليه من الروايتين فأمر به . وقد رواه أحمد عن ابن عيينة عن الزهري بلفظ رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أو كذا وكذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { التمسوها في العشر البواقي منها في الوتر } ورواه أحمد من حديث علي مرفوعا { إن غلبتم فلا تغلبوا في التسع البواقي } قوله : ( أرى ) بفتحتين أي أعلم قوله : ( رؤياكم ) قال عياض : كذا جاء بإفراد الرؤيا والمراد مرائيكم لأنها لم تكن رؤيا واحدة وإنما أراد الجنس

                                                                                                                                            قال ابن التين : كذا روي بتوحيد الرؤيا وهو جائز لأنها مصدر قوله : ( تواطأت ) بالهمزة : أي توافقت وزنا ومعنى . وقال ابن التين : بغير همز ، والصواب بالهمز وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطء صاحبه .

                                                                                                                                            وفي الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية ، هكذا في الفتح قوله : ( تحروا ليلة القدر ) في رواية للبخاري " التمسوا " وفي حديث عائشة دليل على أن ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر . وقد تقدم أنه القول الراجح . فائدة : قال الطبري : في إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة ، إذ لو كان حقا لم يخف على كل من قام ليالي السنة فضلا عن ليالي رمضان . وتعقبه ابن المنير بأنه لا ينبغي إطلاق القول بالتكذيب لذلك ، بل يجوز أن يكون ذلك على سبيل الكرامة لمن شاء الله من عباده فيختص بها قوم دون قوم ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحصر العلامة ولم ينف الكرامة

                                                                                                                                            قال : ومع ذلك فلا يعتقد أن ليلة القدر لا ينالها إلا من رأى الخوارق ، بل فضل الله تعالى واسع ، ورب قائم تلك الليلة لم يحصل منها إلا على العبادة من غير رؤية خارق ، وآخر رأى الخوارق من غير [ ص: 330 ] عبادة والذي حصل على العبادة أفضل ، والعبرة إنما هي بالاستقامة بخلاف الخارقة وقد يقع كرامة وقد يقع فتنة . وقيل : إن المطلع على ليلة القدر يرى كل شيء ساجدا ، وقيل : يرى الأنوار ساطعة في كل مكان حتى في المواضع المظلمة . وقيل : يسمع سلاما أو خطابا من الملائكة ، وقيل : من علاماتها استجابة دعاء من وفق لها




                                                                                                                                            الخدمات العلمية