الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب الدعوة قبل القتال 3280 - ( عن ابن عباس قال : { ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما قط إلا دعاهم } . رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            3281 - ( وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : { اغزوا بسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري [ ص: 272 ] عليهم الذي يجري على المسلمين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فسلهم الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ، فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله ، وإذا حاصرت أهل حصن وأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا } رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وصححه )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            ( وهو حجة في أن قبول الجزية لا يختص بأهل الكتاب ، وأن ليس كل مجتهد مصيبا ، بل الحق عند الله واحد ، وفيه المنع من قتل الولدان ومن التمثيل ) . حديث ابن عباس أخرجه أيضا الحاكم من طريق عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه عنه . قال في مجمع الزوائد : أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني ، ورجاله رجال الصحيح . وظاهر قوله : " إلا دعاهم " يخالف حديث نافع عن ابن عمر : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون } . قوله : ( أو سرية ) هي القطعة من الجيش تنفصل عنه ثم تعود إليه ، وقيل : هي قطعة من الخيل زهاء أربعمائة ، كذا قال إبراهيم الحربي . وسميت سرية لأنها تسري ليلا على خفية

                                                                                                                                            . قوله : ( ولا تغلوا ) بضم الغين : أي لا تخونوا إذا غنمتم شيئا . قوله : ( ولا تغدروا ) بكسر الدال وضمها وهو ضد الوفاء . قوله : ( وليدا ) هو الصبي . قوله : ( فادعهم ) وقع في نسخ مسلم : " ثم ادعهم " قال عياض : الصواب إسقاط ثم ، وقد أسقطها أبو عبيد في كتابه وأبو داود في سننه وغيرهما لأنه تفسير للخصال الثلاث . وقال المازري إن " ثم " دخلت لاستفتاح الكلام .

                                                                                                                                            وفي هذا دليل على أنه يشرع للإمام إذا أرسل قومه إلى قتال الكفار ونحوهم أن يوصيهم بتقوى الله وينهاهم عن المعاصي المتعلقة بالقتال كالغلول والغدر والمثلة وقتل الصبيان .

                                                                                                                                            وفيه دليل على وجوب تقديم دعاء الكفار إلى الإسلام قبل المقاتلة .

                                                                                                                                            وفي المسألة ثلاثة مذاهب : الأول : أنه يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الإسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه ، وبه قال مالك والهادوية وغيرهم ، وظاهر الحديث معهم . والمذهب الثاني أنه لا يجب مطلقا ، وسيأتي في هذا الباب دليل من قال به .

                                                                                                                                            المذهب الثالث : أنه يجب لمن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب . قال ابن المنذر : وهو قول جمهور أهل العلم ، وقد تظاهرت الأحاديث [ ص: 273 ] الصحيحة على معناه ، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث . وقد زعم الإمام المهدي أن وجوب تقديم دعوة من لم تبلغه الدعوة مجمع عليه . ويرد ذلك ما ذكرنا من المذاهب الثلاثة ، وقد حكاها كذلك المازري وأبو بكر بن العربي . قوله : ( ثم ادعهم إلى التحول ) فيه ترغيب الكفار بعد إجابتهم وإسلامهم إلى الهجرة إلى ديار المسلمين ، لأن الوقوف بالبادية ربما كان سببا لعدم معرفة الشريعة لقلة من فيها من أهل العلم . قوله : ( ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء . . . إلخ ) ظاهر هذا أنه لا يستحق من كان بالبادية ولم يهاجر نصيبا في الفيء والغنيمة إذا لم يجاهد ، وبه قال الشافعي وفرق بين مال الفيء والغنيمة وبين مال الزكاة وقال : إن للأعراب حقا في الثاني دون الأول . وذهب مالك وأبو حنيفة والهادوية إلى عدم الفرق بينهما وأنه يجوز صرف كل واحد منهما في مصرف الآخر . وزعم أبو عبيد أن هذا الحكم منسوخ ، وإنما كان في أوائل الإسلام ، وأجيب بمنع دعوى النسخ .

                                                                                                                                            قوله : ( فسلهم الجزية ) ظاهره عدم الفرق بين الكافر والعجمي والعربي وغير الكتابي ، وإلى ذلك ذهب مالك والأوزاعي وجماعة من أهل العلم . وخالفهم الشافعي فقال : لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب ، والمجوس عربا كانوا أو عجما ، واستدل بقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } بعد ذكر أهل الكتاب وقوله صلى الله عليه وسلم : { سنوا بهم سنة أهل الكتاب } وأما سائر المشركين فهم داخلون تحت عموم { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أن الجزية لا تقبل من العربي غير الكتابي وتقبل من الكتابي ومن العجمي ، ولعله يأتي لهذا البحث مزيد بسط . قوله : ( ذمة الله ) الذمة : عقد الصلح والمهادنة وإنما نهى عن ذلك لئلا ينقض الذمة من لا يعرف حقها وينتهك حرمتها بعض من لا تمييز له من الجيش فيكون ذلك أشد . لأن نقض ذمة الله ورسوله أشد من نقض ذمة أمير الجيش أو ذمة جميع الجيش ، وإن كان نقض الكل محرما .

                                                                                                                                            قوله : ( أن تخفروا ) بضم التاء الفوقية وبعدها خاء معجمة ثم فاء مكسورة وراء ، يقال : أخفرت الرجل : إذا نقضت عهده ، وخفرته بمعنى أمنته وحميته . قوله : ( فلا تنزلهم على حكم الله . . . إلخ ) هذا النهي محمول على التنزيه والاحتياط ، وكذلك الذي قبله ، والوجه ما سلف ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا ؟ " .

                                                                                                                                            وفيه دليل لمن قال : إن الحق مع واحد ، وأن ليس كل مجتهد مصيبا ، والخلاف في المسألة مشهور مبسوط في مواضعه . والحق أن كل مجتهد مصيب من الصواب لا من الإصابة . وقد قيل : إن هذا الحديث لا ينتهض للاستدلال به على أن ليس كل مجتهد مصيبا لأن ذلك كان في زمن النبي والأحكام الشرعية إذ ذاك لا تزال تنزل وينسخ بعضها بعضا ويخصص بعضها ببعض ، فلا يؤمن من أن ينزل على [ ص: 274 ] النبي صلى الله عليه وسلم حكم خلاف الحكم الذي قد عرفه الناس .

                                                                                                                                            3282 - ( وعن فروة بن مسيك قال : { قلت : يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي ومدبرهم ؟ قال : نعم ، فلما وليت دعاني ، فقال : لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام } . رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            3283 - ( وعن ابن عوف قال : { كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال ، فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الإسلام ، وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم ، وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث ، حدثني به عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش } . متفق عليه . وهو دليل على استرقاق العرب ) .

                                                                                                                                            3284 - ( وعن سهل بن سعد أنه { سمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر ، فقال : أين علي ؟ فقيل : إنه يشتكي عينيه ، فأمر فدعي له فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء ، فقال : نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ، فقال : على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم ، فوالله لأن يهتدي بك رجل واحد خير لك من حمر النعم } . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            3285 - ( وعن البراء بن عازب قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع فدخل عبد الله بن عتيك بيته ليلا فقتله وهو نائم } . رواه أحمد والبخاري ) . حديث فروة أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه ، وقد أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه . قوله : ( على بني المصطلق ) بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء وكسر اللام بعدها قاف ، وهو بطن شهير من خزاعة . والمصطلق أبوهم ، وهو المصطلق بن سعد بن عمرو بن ربيعة ، ويقال : المصطلق لقبه واسمه جذيمة بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة . قوله : ( وهم غارون ) بغين معجمة وتشديد الراء جمع غار بالتشديد : أي غافلون ، والمراد بذلك الأخذ على غرة : أي غفلة . قوله : ( وسبى ذراريهم ) فيه دليل على جواز استرقاق العرب لأن بني المصطلق عرب من خزاعة كما سلف ، وسيأتي الكلام على ذلك في باب جواز استرقاق العرب .

                                                                                                                                            قوله : ( فبصق في عينيه فبرأ مكانه ) فيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه منقبة لعلي عليه سلام الله ورحمته وبركاته ، فإن هذه الغزوة هي [ ص: 275 ] التي قال فيها صلى الله عليه وسلم : { لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، فتطاول الناس لها ، فقال : ادعوا لي عليا ، فأتي به أرمد ، فبصق في عينيه ودفع إليه الراية ففتح الله عليه } هذا لفظ مسلم والترمذي . قوله : ( حتى يكونوا مثلنا ) المراد من المثلية المذكورة أن يتصفوا بوصف الإسلام وذلك يكون في تلك الحال بالتكلم بالشهادتين ، وليس المراد أنهم يكونون مثلهم في القيام بأمور الإسلام كلها ، فإن ذلك لا يمكن امتثاله حال المقاتلة . قوله : ( على رسلك ) بكسر الراء وسكون السين أي امش إليهم على الرفق والتؤدة . قال في القاموس : الرسل بالكسر : الرفق والتؤدة .

                                                                                                                                            قوله : ( بساحتهم ) قال في القاموس : الساحة : الناحية وفضاء بين دور الحي الجمع ساح وسوح وساحات ، انتهى . قوله : ( فوالله لأن يهتدي بك رجل . . . إلخ ) فيه الترغيب في التسبب لهداية من كان على ضلالة ، وأن ذلك خير للإنسان من أجل النعم الواصلة إليه في الدنيا .

                                                                                                                                            وفي حديث فروة وسهل بن سعد دليل على وجوب تقديم دعاء الكفار إلى الإسلام على الإطلاق ، وقد تقدم الخلاف في ذلك . والصواب الجمع بين الأحاديث المختلفة بما سلف لحديث ابن عمر المذكور ، فإن فيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدم الدعوة لبني المصطلق .

                                                                                                                                            قوله : ( إلى أبي رافع ) هو عبد الله بن أبي الحقيق ، وهذا طرف من الحديث أورده المصنف ههنا لأنه محل الحاجة باعتبار ترجمة الباب لتضمنه وقوع القتللأبي رافع قبل تقديم الدعوة إليه وعدم أمره صلى الله عليه وسلم لمن بعثه لقتله بأن يقدم الدعوة له إلى الإسلام ، والقصة مشهورة ساقها البخاري بطولها في المغازي من صحيحه . قوله : ( رهطا من الأنصار ) هم عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة . وعند ابن إسحاق : ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة وخزاعي بن الأسود . قوله ( : ابن عتيك ) بفتح المهملة وكسر المثناة ، وهو ابن قيس بن الأسود من بني سلمة بكسر اللام ، وكان سبب أمره صلى الله عليه وسلم بقتله أنه كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يعين عليه كما في الصحيح .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية