الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب الإمام ينتقل مأموما إذا استخلف فحضر مستخلفه

                                                                                                                                            1062 - ( عن سهل بن سعد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم ، فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال : أتصلي بالناس فأقيم ؟ قال : نعم ، قال : فصلى أبو بكر ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة ، فتخلص حتى وقف في الصف ، فصفق الناس ، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة ، فلما أكثر الناس التصفيق التفت ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك ، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف ، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ، ثم انصرف فقال : يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك فقال أبو بكر : ما كان لابن أبي قحافة [ ص: 177 ] أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق ، من نابه شيء في صلاته فليسبح ، فإنه إذا سبح التفت إليه ، وإنما التصفيق للنساء } متفق عليه .

                                                                                                                                            وفي رواية لأحمد وأبي داود والنسائي قال { : كان قتال بين بني عمرو بن عوف ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم وقال : يا بلال إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس ، قال : فلما حضرت العصر أقام بلال الصلاة ، ثم أمر أبا بكر فتقدم وذكر الحديث } ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( ذهب إلى بني عمرو بن عوف ) أي ابن مالك بن الأوس ، والأوس أحد قبيلتي الأنصار ، وهما الأوس والخزرج ، وبنو عمرو بن عوف بطن كبير من الأوس . وسبب ذهابه صلى الله عليه وسلم إليهم كما في الرواية التي ذكرها المصنف وقد ذكر نحوها البخاري في الصلح من طريق محمد بن جعفر عن أبي حازم " أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : اذهبوا نصلح بينهم " وله فيه من رواية غسان عن أبي حازم " فخرج في ناس من أصحابه " وله أيضا في الأحكام من صحيحه من طريق حماد بن زيد " أن توجهه كان بعد أن صلى الظهر " وللطبراني أن الخبر جاء بذلك ، وقد أذن بلال لصلاة الظهر .

                                                                                                                                            قوله : ( فحانت الصلاة ) أي صلاة العصر كما صرح به البخاري في الأحكام من صحيحه قوله : ( فقال أتصلي بالناس ؟ ) في الرواية الأخرى التي ذكرها المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بلالا أن يأمر أبا بكر بذلك ، وقد أخرج نحوها ابن حبان والطبراني ، ولا مخالفة بين الروايتين لأنه يحمل على أنه استفهمه : هل نبادر أول الوقت ، أو ننتظر مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ، فرجح أبو بكر المبادرة لأنها فضيلة محققة فلا تترك لفضيلة متوهمة .

                                                                                                                                            قوله : ( فأقيم ) بالنصب لأنها بعد الاستفهام ، ويجوز الرفع على الاستئناف قوله : ( قال : نعم ) في رواية للبخاري " إن شئت " وإنما فوض ذلك إليه لاحتمال أن يكون عنده زيادة علم من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قوله : ( فصلى أبو بكر ) أي دخل في الصلاة .

                                                                                                                                            وفي لفظ للبخاري : " فتقدم أبو بكر فكبر " وفي رواية " فاستفتح أبو بكر " .

                                                                                                                                            وبهذا يجاب عن سبب استمراره في الصلاة في مرض موته صلى الله عليه وسلم وامتناعه من الاستمرار في هذا المقام ; لأنه هناك قد مضى معظم الصلاة فحسن الاستمرار ، وهنا لم يمض إلا اليسير فلم يحسن ، قوله : ( فتخلص ) في رواية للبخاري " جاء يمشي حتى قام عند الصف " ولمسلم " فخرق الصفوف " قوله : ( فصفق الناس ) في رواية للبخاري " فأخذ الناس في التصفيق " قال سهل : أتدرون ما التصفيح ؟ هو التصفيق ، وفيه أنهما مترادفان وقد تقدم التنبيه على ذلك ، قوله : ( وكان أبو بكر لا يلتفت ) .

                                                                                                                                            قيل : كان ذلك [ ص: 178 ] لعلمه بالنهي وقد تقدم الكلام عليه ، قوله : ( فرفع أبو بكر يديه فحمد الله . . . إلخ ) ظاهره أنه تلفظ بالحمد ، وادعى ابن الجوزي أنه أشار بالحمد والشكر بيده ولم يتكلم ، قوله : ( أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) تقرير النبي صلى الله عليه وسلم له على ذلك يدل على ما قاله البعض من أن سلوك طريقة الأدب خير من الامتثال .

                                                                                                                                            ويؤيد ذلك عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم على علي عليه السلام لما امتنع من محو اسمه في قصة الحديبية ، وقد قدمنا الإشارة إلى هذا المعنى في أبواب صفة الصلاة قوله : ( أكثرتم التصفيق ) ظاهره أن الإنكار إنما حصل لكثرته لا لمطلقه ، ولكن قوله : " إنما التصفيق للنساء " يدل على منع الرجال منه مطلقا ، قوله : ( التفت إليه ) بضم المثناة على البناء للمجهول ، وفي رواية للبخاري " فإنه لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت " . والحديث يدل على ما بوب له المصنف من جواز انتقال الإمام مأموما إذا استخلف فحضر مستخلفه وادعى ابن عبد البر أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، وادعى الإجماع على عدم جواز ذلك لغيره .

                                                                                                                                            ونوقض أن الخلاف ثابت ، وأن الصحيح المشهور عند الشافعية الجواز .

                                                                                                                                            وروي عن ابن القاسم الجواز أيضا . وللحديث فوائد ذكر المصنف رحمه الله تعالىبعضها فقال فيه : من العلم أن المشي من صف إلى صف يليه لا يبطل ، وأن حمد الله لأمر يحدث والتنبيه بالتسبيح جائزان ، وأن الاستخلاف في الصلاة لعذر جائز من طريق الأولى ; لأن قصاراه وقوعها بإمامين ا هـ . ومن فوائد الحديث جواز كون المرء في بعض صلاته إماما وفي بعضها مأموما . وجواز رفع اليدين في الصلاة عند الدعاء والثناء وجواز الالتفات للحاجة ، وجواز مخاطبة المصلي بالإشارة ، وجواز الحمد والشكر على الوجاهة في الدين ، وجواز إمامة المفضول للفاضل ، وجواز العمل القليل في الصلاة ، وغير ذلك من الفوائد .

                                                                                                                                            1063 - ( وعن عائشة قالت { : مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : مروا أبا بكر يصل بالناس ، فخرج أبو بكر يصلي ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة ، فخرج يهادى بين رجلين ، فأراد أبو بكر أن يتأخر ، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك ، ثم أتيا به حتى جلس إلى جنبه عن يسار أبي بكر ، وكان أبو بكر يصلي قائما ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا ، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس بصلاة أبي بكر } . متفق عليه . وللبخاري في رواية : { فخرج يهادى بين رجلين في صلاة الظهر } . ولمسلم : { وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير } ) . قوله : ( مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ) هو مرض موته صلى الله عليه وسلم قوله : ( مروا أبا بكر ) استدل [ ص: 179 ] بهذا على أن الأمر بالأمر بالشيء ، يكون أمرا به كما ذهب إلى ذلك جماعة من أهل الأصول .

                                                                                                                                            وأجاب المانعون بأن المعنى : بلغوا أبا بكر أني أمرته ، والمبحث مستوفى في الأصول . قوله : ( فخرج أبو بكر ) فيه حذف دل عليه سياق الكلام ، والتقدير فأمروه فخرج . وقد ورد مبينا في بعض روايات البخاري بلفظ : { فأتاه الرسول فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس ، فقال أبو بكر وكان رقيقا : يا عمر صل بالناس ، فقال له عمر : أنت أحق بذلك } قوله : ( فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة ) يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم . وجد الخفة في تلك الصلاة بعينها ، ويحتمل ما هو أعم من ذلك قوله : ( يهادى ) بضم أوله وفتح الدال : أي يعتمد على الرجلين متمايلا في مشيه من شدة الضعف ، والتهادي : التمايل في المشي البطيء قوله : ( بين رجلين ) في البخاري أنهما العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب سلام الله عليهما .

                                                                                                                                            وفي رواية له : " أنه خرج بين بريرة وثويبة " قال النووي : ويجمع بين الروايتين بأنه خرج من البيت إلى المسجد بين هاتين ، ومن ثم إلى مقام المصلي بين العباس وعلي ، أو يحمل على التعدد ، ويدل على ذلك ما في رواية الدارقطني " أنه صلى الله عليه وسلم خرج بين أسامة بن زيد والفضل بن العباس " . قال الحافظ : وأما ما في صحيح مسلم " أنه صلى الله عليه وسلم خرج بين الفضل بن العباس وعلي " فذلك في حال مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى بيت عائشة قوله : ( ثم أتيا به ) في رواية للبخاري " ثم أتي به " وفي رواية له " إن ذلك كان بأمره " ولفظها فقال " أجلساني إلى جنبه ، فأجلساه " قوله : ( عن يسار أبي بكر ) فيه رد على القرطبي حيث قال : لم يقع في الصحيح بيان جلوسه صلى الله عليه وسلم هل كان عن يمين أبي بكر أو عن يساره قوله : ( يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ) وفيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماما وأبو بكر مؤتما به " .

                                                                                                                                            وقد اختلف في ذلك اختلافا شديدا كما قال الحافظ ففي رواية لأبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المقدم بين يدي أبي بكر .

                                                                                                                                            وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه عن عائشة أنها قالت : " من الناس من يقول كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم المقدم " .

                                                                                                                                            وأخرج ابن المنذر من رواية مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ : { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر } . وأخرج ابن حبان عنها بلفظ { كان أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر } .

                                                                                                                                            وأخرج الترمذي والنسائي وابن خزيمة عنها بلفظ : { إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر } قال في الفتح : تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام في تلك الصلاة ، ثم قال بعد أن ذكر الاختلاف : فمن العلماء من سلك الترجيح فقدم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأموما للجزم بها في رواية أبي معاوية وهو أحفظ في حديث الأعمش من غيره . ومنهم من عكس ذلك [ ص: 180 ] فقدم الرواية التي فيها أنه كان إماما . ومنهم من سلك الجمع فحمل القصة على التعدد ، والظاهر من رواية حديث الباب المتفق عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماما وأبو بكر مؤتما ، لأن الاقتداء المذكور المراد به الائتمام . ويؤيد ذلك رواية مسلم التي ذكرها المصنف بلفظ : { وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير } . وقد استدل بحديث الباب القائلون بجواز ائتمام القائم بالقاعد ، وسيأتي بسط الكلام في ذلك في باب اقتداء القادر على القيام بالجالس قوله : ( وأبو بكر يسمعهم التكبير ) فيه دلالة على جواز رفع الصوت بالتكبير لإسماع المؤتمين ، وقد قيل : إن جواز ذلك مجمع عليه . ونقل القاضي عياض عن بعض المالكية أنه يقول ببطلان صلاة المسمع . .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية