الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم قال ابن عباس ومجاهد : " على خلق " : على دين عظيم من الأديان ، ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه . وفي صحيح مسلم عن عائشة أن خلقه كان القرآن . وقال علي رضي الله عنه وعطية : هو أدب القرآن . وقيل : هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم . وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه . وقيل : أي إنك على طبع كريم . الماوردي : وهو الظاهر . وحقيقة الخلق في اللغة : هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب يسمى خلقا ; لأنه يصير كالخلقة فيه . وأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم ( بالكسر ) : السجية والطبيعة ، لا واحد له من لفظه . وخيم : اسم جبل . فيكون الخلق الطبع المتكلف . والخيم الطبع الغريزي . وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال :

وإذا ذو الفضول ضن على المو لى وعادت لخيمها الأخلاق

أي رجعت الأخلاق إلى طبائعها .

قلت : ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال . وسئلت أيضا عن خلقه عليه السلام ; فقرأت قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات ، وقالت : ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لبيك ، ولذلك قال الله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم . ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر .

وقال الجنيد : سمي خلقه عظيما لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى . وقيل : سمي خلقه عظيما [ ص: 211 ] لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ; يدل عليه قوله عليه السلام : " إن الله بعثني لأتم مكارم الأخلاق " . وقيل : لأنه امتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين . وقد روي عنه عليه السلام أنه قال : " أدبني ربي تأديبا حسنا إذ قال : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فلما قبلت ذلك منه قال : إنك لعلى خلق عظيم " .

الثانية : روى الترمذي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " . قال : حديث حسن صحيح . وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء " . قال : حديث حسن صحيح . وعنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق ، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم " . قال : حديث غريب من هذا الوجه . وعن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ فقال : " تقوى الله وحسن الخلق " . وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ فقال : " الفم والفرج " قال : هذا حديث صحيح غريب . وعن عبد الله بن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال : هو بسط الوجه ، وبذل المعروف ، وكف الأذى . وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا - قال - وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون . قالوا : يا رسول الله ، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون ، فما [ ص: 212 ] المتفيهقون ؟ قال : المتكبرون " . قال : وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية