الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "فبما رحمة من الله" ، فبرحمة من الله ، و"ما" صلة . وقد بينت وجه دخولها في الكلام في قوله : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) [ سورة البقرة : 26 ] . والعرب تجعل"ما" صلة في المعرفة والنكرة ، كما قال : ( فبما نقضهم ميثاقهم ) [ سورة النساء : 155\ سورة المائدة : 13 ] ، والمعنى : فبنقضهم ميثاقهم . وهذا في المعرفة . وقال في النكرة : ( عما قليل ليصبحن نادمين ) [ سورة المؤمنون : 40 ] ، والمعنى : عن قليل . وربما جعلت اسما وهي في مذهب صلة ، فيرفع ما بعدها أحيانا على وجه الصلة ، ويخفض على إتباع الصلة ما قبلها ، كما قال الشاعر :


فكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا



إذا جعلت غير صلة رفعت بإضمار"هو" ، وإن خفضت أتبعت"من" ، فأعربته . فذلك حكمه على ما وصفنا مع النكرات . [ ص: 341 ]

فأما إذا كانت الصلة معرفة ، كان الفصيح من الكلام الإتباع ، كما قيل : "فبما نقضهم ميثاقهم" ، والرفع جائز في العربية .

وبنحو ما قلنا في قوله : "فبما رحمة من الله لنت لهم" ، قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

8119 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " فبما رحمة من الله لنت لهم " ، يقول : فبرحمة من الله لنت لهم .

وأما قوله : "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك" ، فإنه يعني ب"الفظ" الجافي ، وب"الغليظ القلب" ، القاسي القلب ، غير ذي رحمة ولا رأفة . وكذلك كانت صفته صلى الله عليه وسلم ، كما وصفه الله به : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) [ سورة التوبة : 128 ] .

فتأويل الكلام : فبرحمة الله ، يا محمد ، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك"لنت لهم" ، لتباعك وأصحابك ، فسهلت لهم خلائقك ، وحسنت لهم أخلاقك ، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه ، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه ، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتبعك ولا ما بعثت به من الرحمة ، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم ، فبرحمة من الله لنت لهم . كما : -

8120 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " ، أي والله ، لطهره الله من الفظاظة والغلظة ، وجعله قريبا رحيما بالمؤمنين رءوفا وذكر لنا أن نعت محمد صلى [ ص: 342 ] الله عليه وسلم في التوراة : " ليس بفظ ولا غليظ ولا صخوب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة مثلها ، ولكن يعفو ويصفح" .

8121 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بنحوه .

8122 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " ، قال : ذكر لينه لهم وصبره عليهم لضعفهم ، وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه في كل ما خالفوا فيه مما افترض عليهم من طاعة نبيهم .

وأما قوله : "لانفضوا من حولك" ، فإنه يعني : لتفرقوا عنك . كما : -

8123 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : قوله : " لانفضوا من حولك " ، قال : انصرفوا عنك .

8124 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " لانفضوا من حولك " ، أي : لتركوك .

التالي السابق


الخدمات العلمية