الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق )

قال أبو جعفر : ذكر أن هذه الآية وآيات بعدها نزلت في بعض اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ذكر الآثار بذلك :

8300 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة : أنه حدثه عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدراس ، فوجد من يهود ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص ، كان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له أشيع . فقال أبو بكر رضي الله عنه [ ص: 442 ] لفنحاص : ويحك يا فنحاص ، اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل! قال فنحاص : والله يا أبا بكر ، ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير! وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم! ينهاكم عن الربا ويعطيناه! ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا! فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله! فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين . فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، انظر ما صنع بي صاحبك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت؟"فقال : يا رسول الله ، إن عدو الله قال قولا عظيما ، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء! فلما قال ذلك غضبت لله مما قال : فضربت وجهه . فجحد ذلك فنحاص وقال : ما قلت ذلك! فأنزل الله تبارك وتعالى فيما قال فنحاص ، ردا عليه وتصديقا لأبي بكر : "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق" وفي قول أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب : ( لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) [ سورة آل عمران : 186 ] .

8301 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد [ ص: 443 ] بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس قال : دخل أبو بكر فذكر نحوه ، غير أنه قال : "وإنا عنه لأغنياء ، وما هو عنا بغني ، ولو كان غنيا" ، ثم ذكر سائر الحديث نحوه .

8302 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " ، قالها فنحاص اليهودي من بني مرثد ، لقيه أبو بكر فكلمه فقال له : يا فنحاص ، اتق الله وآمن وصدق ، وأقرض الله قرضا حسنا! فقال فنحاص : يا أبا بكر ، تزعم أن ربنا فقير يستقرضنا أموالنا! وما يستقرض إلا الفقير من الغني! إن كان ما تقول حقا ، فإن الله إذا لفقير! فأنزل الله عز وجل هذا ، فقال أبو بكر : فلولا هدنة كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بني مرثد لقتلته .

8303 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : صك أبو بكر رجلا منهم الذين قالوا : " إن الله فقير ونحن أغنياء " ، لم يستقرضنا وهو غني؟! وهم يهود .

8304 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح قال : " الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " ، لم يستقرضنا وهو غني؟ قال شبل : بلغني أنه فنحاص اليهودي ، وهو الذي قال : " إن الله ثالث ثلاثة " و"يد الله مغلولة" .

8305 - حدثنا ابن حميد قال : حدثني يحيى بن واضح قال : حدثت عن عطاء ، عن الحسن قال : لما نزلت : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) [ سورة البقرة : 245\ سورة الحديد : 11 ] قالت اليهود : إن ربكم يستقرض منكم! فأنزل الله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " . [ ص: 444 ]

8306 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن الحسن البصري قال : لما نزلت : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) قال : عجبت اليهود فقالت : إن الله فقير يستقرض! فنزلت : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " .

8307 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء" ، ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب ، لما أنزل الله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) قال : يستقرضنا ربنا ، إنما يستقرض الفقير الغني!

8308 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : لما نزلت : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " ، قالت اليهود : إنما يستقرض الفقير من الغني!! قال : فأنزل الله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " .

8309 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " ، قال : هؤلاء يهود .

قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : لقد سمع الله قول الذين قالوا من اليهود : "إن الله فقير إلينا ونحن أغنياء عنه" ، سنكتب ما قالوا من الإفك والفرية على ربهم ، وقتلهم أنبياءهم بغير حق .

واختلفت القرأة في قراءة قوله : "سنكتب ما قالوا وقتلهم" .

فقرأ ذلك قرأة الحجاز وعامة قرأة العراق : ( سنكتب ما قالوا ) بالنون ، [ ص: 445 ] " وقتلهم الأنبياء بغير حق " بنصب"القتل" .

وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين : ( " سيكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق" ) بالياء من"سيكتب" وبضمها ، ورفع"القتل" ، على مذهب ما لم يسم فاعله ، اعتبارا بقراءة يذكر أنها من قراءة عبد الله في قوله : "ونقول ذوقوا" ، يذكر أنها في قراءة عبد الله : "ويقال" .

فأغفل قارئ ذلك وجه الصواب فيما قصد إليه من تأويل القراءة التي تنسب إلى عبد الله ، وخالف الحجة من قرأة الإسلام . وذلك أن الذي ينبغي لمن قرأ : "سيكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء" على وجه ما لم يسم فاعله ، أن يقرأ : "ويقال" ، لأن قوله : "ونقول" عطف على قوله : "سنكتب" . فالصواب من القراءة أن يوفق بينهما في المعنى بأن يقرآ جميعا على مذهب ما لم يسم فاعله ، أو على مذهب ما يسمى فاعله . فأما أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يسم فاعله ، والآخر على وجه ما قد سمي فاعله ، من غير معنى ألجأه على ذلك ، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : "سنكتب" بالنون"وقتلهم" بالنصب ، لقوله : "ونقول" ، ولو كانت القراءة في"سيكتب" [ ص: 446 ] بالياء وضمها ، لقيل : "ويقال" ، على ما قد بينا .

فإن قال قائل : كيف قيل : "وقتلهم الأنبياء بغير حق" ، وقد ذكرت في الآثار التي رويت ، أن الذين عنوا بقوله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير " بعض اليهود الذين كانوا على عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن من أولئك أحد قتل نبيا من الأنبياء ، لأنهم لم يدركوا نبيا من أنبياء الله فيقتلوه؟

قيل : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه . وإنما قيل ذلك كذلك ، لأن الذين عنى الله تبارك وتعالى بهذه الآية ، كانوا راضين بما فعل أوائلهم من قتل من قتلوا من الأنبياء ، وكانوا منهم وعلى منهاجهم ، من استحلال ذلك واستجازته . فأضاف جل ثناؤه فعل ما فعله من كانوا على منهاجه وطريقته ، إلى جميعهم ، إذ كانوا أهل ملة واحدة ونحلة واحدة ، وبالرضى من جميعهم فعل ما فعل فاعل ذلك منهم ، على ما بينا من نظائره فيما مضى قبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية