الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( 33 ) )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : " قد نعلم " يا محمد ، إنه ليحزنك الذي يقول المشركون ، وذلك قولهم له : إنه كذاب " فإنهم لا يكذبونك " .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك

[ فقرأته جماعة من أهل الكوفة : ( فإنهم لا يكذبونك ) بالتخفيف ] ، بمعنى : إنهم لا يكذبونك فيما أتيتهم به من وحي الله ، ولا يدفعون أن يكون ذلك صحيحا ، بل يعلمون صحته ، ولكنهم يجحدون حقيقته قولا فلا يؤمنون به . [ ص: 331 ]

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يحكي عن العرب أنهم يقولون : " أكذبت الرجل " إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه . قال : ويقولون : " كذبته " إذا أخبرت أنه كاذب .

وقرأته جماعة من قرأة المدينة والعراقيين والكوفة والبصرة : فإنهم لا يكذبونك بمعنى : أنهم لا يكذبونك علما ، بل يعلمون أنك صادق ولكنهم يكذبونك قولا عنادا وحسدا .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرأة ، ولكل واحدة منهما في الصحة مخرج مفهوم .

وذلك أن المشركين لا شك أنه كان منهم قوم يكذبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويدفعونه عما كان الله - تعالى ذكره - خصه به من النبوة ، فكان بعضهم يقول : " هو شاعر " وبعضهم يقول : " هو كاهن " وبعضهم يقول : " هو مجنون " وينفي جميعهم أن يكون الذي أتاهم به من وحي السماء ، ومن تنزيل رب العالمين ، قولا . وكان بعضهم قد تبين أمره وعلم صحة نبوته ، وهو في ذلك يعاند ويجحد نبوته حسدا له وبغيا .

فالقارئ : ( فإنهم لا يكذبونك ) بمعنى أن الذين كانوا يعرفون [ ص: 332 ] حقيقة نبوتك وصدق قولك فيما تقول ، يجحدون أن يكون ما تتلوه عليهم من تنزيل الله ومن عند الله ، قولا - وهم يعلمون أن ذلك من عند الله علما صحيحا - مصيب ، لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته .

وفي قول الله تعالى في هذه السورة : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [ سورة المائدة : 20 ] ، أوضح الدليل على أنه قد كان فيهم المعاند في جحود نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، مع علم منهم به وبصحة نبوته .

وكذلك القارئ : ( فإنهم لا يكذبونك ) - بمعنى : أنهم لا يكذبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عنادا ، لا جهلا بنبوته وصدق لهجته - مصيب ، لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته .

وقد ذهب إلى كل واحد من هذين التأويلين جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال : معنى ذلك : فإنهم لا يكذبونك ولكنهم يجحدون الحق على علم منهم بأنك نبي لله صادق .

13190 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك " قال : جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو جالس حزين ، فقال له : ما يحزنك ؟ فقال : كذبني هؤلاء ! قال فقال له جبريل : إنهم لا يكذبونك ، هم يعلمون أنك صادق ، " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " .

13191 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل ، عن [ ص: 333 ] أبي صالح قال : جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس حزين ، فقال له : ما يحزنك ؟ فقال : كذبني هؤلاء ! فقال له جبريل : إنهم لا يكذبونك ، إنهم ليعلمون أنك صادق ، " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " .

13192 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " قال : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون .

13193 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط : عن السدي في قوله : " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة ، إن محمدا ابن أختكم ، فأنتم أحق من كف عنه ، فإنه إن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته ! قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد [ - صلى الله عليه وسلم - ] رجعتم سالمين ، وإن غلب محمد فإن قومكم لا يصنعون بكم شيئا فيومئذ سمي " الأخنس " وكان اسمه " أبي " فالتقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس بأبي جهل ، فقال : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد ، أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا ! فقال أبو جهل : ويحك ، والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله : " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " " فآيات الله " محمد - صلى الله عليه وسلم - . [ ص: 334 ]

13194 - حدثني الحارث بن محمد قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : " فإنهم لا يكذبونك " قال : ليس يكذبون محمدا ، ولكنهم بآيات الله يجحدون .

ذكر من قال ذلك بمعنى : فإنهم لا يكذبونك ، ولكنهم يكذبون ما جئت به .

13195 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية قال : قال أبو جهل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما نتهمك ، ولكن نتهم الذي جئت به ! فأنزل الله - تعالى ذكره - : " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " .

13196 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب : أن أبا جهل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب الذي جئت به ! فأنزل الله - تعالى ذكره - : " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " .

وقال آخرون : معنى ذلك ، فإنهم لا يبطلون ما جئتهم به .

ذكر من قال ذلك :

13197 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب : " فإنهم لا يكذبونك " قال : لا يبطلون ما في يديك .

وأما قوله : " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " فإنه يقول : ولكن المشركين بالله ، بحجج الله وآي كتابه ورسوله يجحدون ، فينكرون صحة ذلك كله .

وكان السدي يقول : " الآيات " في هذا الموضع ، معني بها محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه قبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية