الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 268 ] القول في تأويل قوله تعالى ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ( 159 ) )

قال أبو جعفر : اختلف القرأة في قراءة قوله : ( فرقوا ) .

فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ما :

14252 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، أن عليا رضي الله عنه قرأ : " إن الذين فارقوا دينهم " .

14253 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير قال : قال حمزة الزيات : قرأها علي رضي الله عنه : " فارقوا دينهم " .

14254 - . . . وقال : حدثنا الحسن بن علي ، عن سفيان ، عن قتادة : " فارقوا دينهم " .

وكأن عليا ذهب بقوله : " فارقوا دينهم " ، خرجوا فارتدوا عنه ، من " المفارقة " .

وقرأ ذلك عبد الله بن مسعود ، كما : -

14255 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن رافع ، عن زهير قال : حدثنا أبو إسحاق أن عبد الله كان يقرؤها : ( فرقوا دينهم ) .

وعلى هذه القراءة أعني قراءة عبد الله قرأة المدينة والبصرة وعامة قرأة الكوفيين . وكأن عبد الله تأول بقراءته ذلك كذلك : أن دين الله واحد ، وهو دين إبراهيم الحنيفية المسلمة ، ففرق ذلك اليهود والنصارى ، فتهود قوم وتنصر آخرون ، فجعلوه شيعا متفرقة .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأت بكل واحدة منهما أئمة من القرأة ، وهما متفقتا المعنى غير مختلفتيه . وذلك [ ص: 269 ] أن كل ضال فلدينه مفارق ، وقد فرق الأحزاب دين الله الذي ارتضاه لعباده ، فتهود بعض وتنصر آخرون ، وتمجس بعض . وذلك هو " التفريق " بعينه ، ومصير أهله شيعا متفرقين غير مجتمعين ، فهم لدين الله الحق مفارقون ، وله مفرقون . فبأي ذلك قرأ القارئ فهو للحق مصيب ، غير أني أختار القراءة بالذي عليه عظم القرأة ، وذلك تشديد " الراء " من " فرقوا " .

ثم اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله : ( إن الذين فرقوا دينهم ) .

فقال بعضهم : عنى بذلك اليهود والنصارى .

ذكر من قال ذلك :

14256 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( وكانوا شيعا ) ، قال : يهود .

14257 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .

14258 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( فرقوا دينهم ) ، قال : هم اليهود والنصارى .

14259 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) ، من اليهود والنصارى .

14260 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ، هؤلاء اليهود والنصارى . وأما قوله : ( فارقوا دينهم ) ، فيقول : تركوا دينهم وكانوا شيعا .

14261 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي [ ص: 270 ] قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) ، وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل أن يبعث محمد ، فتفرقوا . فلما بعث محمد أنزل الله : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) .

14262 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) ، يعني اليهود والنصارى .

14263 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حسين بن علي ، عن شيبان ، عن قتادة : " فارقوا دينهم " ، قال : هم اليهود والنصارى .

وقال آخرون : عنى بذلك أهل البدع من هذه الأمة ، الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه .

ذكر من قال ذلك :

14264 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن طاوس ، عن أبي هريرة قال : ( إن الذين فرقوا دينهم ) ، قال : نزلت هذه الآية في هذه الأمة .

14265 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن طاوس ، عن أبي هريرة : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) ، قال : هم أهل الصلاة .

14266 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال : حدثنا بقية بن الوليد قال : كتب إلي عباد بن كثير قال : حدثني ليث ، عن طاوس ، عن أبي هريرة [ ص: 271 ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في هذه الآية : " ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ، وليسوا منك ، هم أهل البدع ، وأهل الشبهات ، وأهل الضلالة من هذه الأمة .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن فارق دينه الحق وفرقه ، وكانوا فرقا فيه وأحزابا شيعا ، وأنه ليس منهم . ولا هم منه ؛ لأن دينه الذي بعثه الله به هو الإسلام ، دين إبراهيم الحنيفية ، كما قال له ربه وأمره أن يقول : ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) [ سورة الأنعام : 161 ] .

فكان من فارق دينه الذي بعث به صلى الله عليه وسلم من مشرك ووثني يهودي ونصراني ومتحنف ، مبتدع قد ابتدع في الدين ما ضل به عن الصراط المستقيم والدين القيم ملة إبراهيم المسلم ، فهو بريء من محمد صلى الله عليه وسلم ، ومحمد منه بريء ، وهو داخل في عموم قوله : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) . [ ص: 272 ]

وأما قوله : ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .

فقال بعضهم : نزلت هذه الآية على نبي الله بالأمر بترك قتال المشركين قبل وجوب فرض قتالهم ، ثم نسخها الأمر بقتالهم في " سورة براءة " ، وذلك قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) . [ سورة التوبة : 5 ] .

ذكر من قال ذلك :

14267 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، لم يؤمر بقتالهم ، ثم نسخت ، فأمر بقتالهم في " سورة براءة " .

وقال آخرون : بل نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم إعلاما من الله له أن من أمته من يحدث بعده في دينه . وليست بمنسوخة ؛ لأنها خبر لا أمر ، والنسخ إنما يكون في الأمر والنهي .

ذكر من قال ذلك :

14268 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال : أخبرنا مالك بن مغول ، عن علي بن الأقمر ، عن أبي الأحوص ، أنه تلا هذه الآية : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ، ثم يقول : بريء نبيكم صلى الله عليه وسلم منهم .

14269 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي وابن إدريس وأبو أسامة ويحيى بن آدم ، عن مالك بن مغول ، بنحوه .

14270 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا شجاع أبو [ ص: 273 ] بدر ، عن عمرو بن قيس الملائي قال : قالت أم سلمة : ليتق امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ! ثم قرأت : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) قال عمرو بن قيس : قالها مرة الطيب ، وتلا هذه الآية .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن قوله : ( لست منهم في شيء ) ، إعلام من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه من مبتدعة أمته الملحدة في دينه بريء ، ومن الأحزاب من مشركي قومه ، ومن اليهود والنصارى . وليس في إعلامه ذلك ما يوجب أن يكون نهاه عن قتالهم ؛ لأنه غير محال أن يقال في الكلام : " لست من دين اليهود والنصارى في شيء فقاتلهم . فإن أمرهم إلى الله في أن يتفضل على من شاء منهم فيتوب عليه ، ويهلك من أراد إهلاكه منهم كافرا فيقبض روحه ، أو يقتله بيدك على كفره ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون عند مقدمهم عليه " . وإذ كان غير مستحيل اجتماع الأمر بقتالهم ، وقوله : ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، ولم يكن في الآية دليل واضح على أنها منسوخة ، ولا ورد بأنها منسوخة عن الرسول خبر كان غير جائز أن يقضى عليها بأنها منسوخة ، حتى تقوم حجة موجبة صحة القول بذلك ، لما قد بينا من أن المنسوخ هو ما لم يجز اجتماعه وناسخه في حال واحدة ، في كتابنا كتاب : " اللطيف من البيان عن أصول الأحكام " . [ ص: 274 ]

وأما قوله : ( إنما أمرهم إلى الله ) ، فإنه يقول : أنا الذي إلي أمر هؤلاء المشركين الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا ، والمبتدعة من أمتك الذين ضلوا عن سبيلك ، دونك ودون كل أحد . إما بالعقوبة إن أقاموا على ضلالتهم وفرقتهم دينهم فأهلكهم بها ، وإما بالعفو عنهم بالتوبة عليهم والتفضل مني عليهم ( ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) ، يقول : ثم أخبرهم في الآخرة عند ورودهم علي يوم القيامة بما كانوا يفعلون ، فأجازي كلا منهم بما كانوا في الدنيا يفعلون ، المحسن منهم بالإحسان ، والمسيء بالإساءة . ثم أخبر جل ثناؤه ما مبلغ جزائه من جازى منهم بالإحسان أو بالإساءة فقال : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية