الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الذين كذبوا بحججنا وأدلتنا فلم يصدقوا بها ، ولم يتبعوا رسلنا ( واستكبروا عنها ) ، يقول : وتكبروا عن التصديق بها وأنفوا من اتباعها والانقياد لها تكبرا " لا تفتح لهم " ، لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم " أبواب السماء " ، ولا يصعد لهم في حياتهم إلى الله قول ولا عمل ، لأن أعمالهم خبيثة ، وإنما يرفع الكلم الطيب والعمل الصالح ، كما قال جل ثناؤه : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) [ سورة فاطر : 10 ] .

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) .

فقال بعضهم : معناه : لا تفتح لأرواح هؤلاء الكفار أبواب السماء .

ذكر من قال ذلك :

13603 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يعلى ، عن أبي سنان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال : عنى بها الكفار ، [ ص: 422 ] أن السماء لا تفتح لأرواحهم ، وتفتح لأرواح المؤمنين .

14604 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن أبي سنان ، عن الضحاك قال : قال ابن عباس : تفتح السماء لروح المؤمن ، ولا تفتح لروح الكافر .

14605 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال : إن الكافر إذا أخذ روحه ، ضربته ملائكة الأرض حتى يرتفع إلى السماء ، فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء فهبط ، فضربته ملائكة الأرض فارتفع ، فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء الدنيا فهبط إلى أسفل الأرضين . وإذا كان مؤمنا نفخ روحه ، وفتحت له أبواب السماء ، فلا يمر بملك إلا حياه وسلم عليه ، حتى ينتهي إلى الله ، فيعطيه حاجته ، ثم يقول الله : ردوا روح عبدي فيه إلى الأرض ، فإني قضيت من التراب خلقه ، وإلى التراب يعود ، ومنه يخرج .

وقال آخرون : معنى ذلك أنه لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاء إلى الله .

ذكر من قال ذلك :

14606 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن سفيان ، عن ليث ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، لا يصعد لهم قول ولا عمل .

14607 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، يعني : لا يصعد إلى الله من عملهم شيء .

14608 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي [ ص: 423 ] قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، يقول : لا تفتح لخير يعملون .

14609 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال : لا يصعد لهم كلام ولا عمل .

14610 - حدثنا مطر بن محمد الضبي قال ، حدثنا عبد الله بن داود قال ، حدثنا شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال : لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء .

14611 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال : لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء .

14612 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سعيد : ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال : لا يرفع لهم عمل صالح ولا دعاء .

وقال آخرون : معنى ذلك : لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم ولا لأعمالهم .

ذكر من قال ذلك :

14613 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) ، قال : لأرواحهم ولا لأعمالهم .

قال أبو جعفر : وإنما اخترنا في تأويل ذلك ما اخترنا من القول ، لعموم خبر الله جل ثناؤه أن أبواب السماء لا تفتح لهم . ولم يخصص الخبر بأنه يفتح لهم في شيء ، فذلك على ما عمه خبر الله تعالى بأنها لا تفتح لهم في شيء ، مع تأييد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلنا في ذلك ، وذلك ما : - [ ص: 424 ]

14614 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن زاذان ، عن البراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر ، وأنه يصعد بها إلى السماء ، قال : فيصعدون بها ، فلا يمرون على ملإ من الملائكة إلا قالوا : " ما هذا الروح الخبيث " ؟ فيقولون : " فلان " ، بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء ، فيستفتحون له فلا يفتح له . ثم قرأ رسول الله : ( لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط )

14615 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الميت تحضره الملائكة ، فإذا [ ص: 425 ] كان الرجل الصالح قالوا : " اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حميدة ، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان " ، قال : فيقولون ذلك حتى يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها ، فيقال : " من هذا " ؟ فيقولون : " فلان " . فيقال : مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، ادخلي حميدة ، وأبشري بروح وريحان ، ورب غير غضبان " ، فيقال لها حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله . وإذا كان الرجل السوء قال : " اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، اخرجي ذميمة ، وأبشري بحميم وغساق ، وآخر من شكله أزواج " ، فيقولون ذلك حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها ، فيقال : " من هذا " ؟ فيقولون : " فلان " . فيقولون : " لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، ارجعي ذميمة ، فإنه لم تفتح لك أبواب السماء " ، فترسل بين السماء والأرض ، فتصير إلى القبر .

14616 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا ابن أبي فديك قال ، حدثني ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه . [ ص: 426 ]

واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته عامة قرأة الكوفة : " لا يفتح لهم أبواب السماء " ، بالياء من " يفتح " ، وتخفيف " التاء " منها ، بمعنى : لا يفتح لهم جميعها بمرة واحدة وفتحة واحدة .

وقرأ ذلك بعض المدنيين وبعض الكوفيين : ( لا تفتح ) ، بالتاء وتشديد التاء الثانية ، بمعنى : لا يفتح لهم باب بعد باب ، وشيء بعد شيء .

قال أبو جعفر : والصواب في ذلك عندي من القول أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى . وذلك أن أرواح الكفار لا تفتح لها ولا لأعمالهم الخبيثة أبواب السماء بمرة واحدة ، ولا مرة بعد مرة ، وباب بعد باب . فكلا المعنيين في ذلك صحيح .

وكذلك " الياء " ، و " التاء " في " يفتح " ، و " تفتح " ، لأن " الياء " بناء على فعل الواحد للتوحيد ، و " التاء " لأن " الأبواب " جماعة ، فيخبر عنها خبر الجماعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية