الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ( 103 ) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ( 104 ) )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قل ) يا محمد لهؤلاء الذين يبغون عنتك ويجادلونك بالباطل ، ويحاورونك بالمسائل من أهل الكتابين : اليهود ، والنصارى ( هل ننبئكم ) أيها القوم ( بالأخسرين أعمالا ) يعني بالذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحا وفضلا فنالوا به عطبا وهلاكا ولم يدركوا طلبا ، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلا وربحا ، فخاب رجاؤه . وخسر بيعه ، ووكس في الذي رجا فضله .

واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بذلك ، فقال بعضهم : عني به الرهبان والقسوس .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا المقبري ، قال : ثنا حيوة بن شريح ، قال : أخبرني [ ص: 126 ] السكن بن أبي كريمة ، أن أمه أخبرته أنها سمعت أبا خميصة عبد الله بن قيس يقول : سمعت علي بن أبي طالب يقول في هذه الآية ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت حيوة يقول : ثني السكن بن أبي كريمة ، عن أمه أخبرته أنها سمعت عبد الله بن قيس يقول : سمعت علي بن أبي طالب يقول ، فذكر نحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن مصعب بن سعد ، قال : قلت لأبي ( وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) أهم الحرورية؟ قال : هم أصحاب الصوامع .

حدثنا فضالة بن الفضل ، قال : قال بزيع : سأل رجل الضحاك عن هذه الآية ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) قال : هم القسيسون والرهبان .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن مصعب بن سعد ، قال : قال سعد : هم أصحاب الصوامع .

حدثنا ابن حميد ، قال ثنا جرير ، عن منصور ، عن ابن سعد ، قال : قلت لسعد : يا أبت ( هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) أهم الحرورية ، فقال : لا ولكنهم أصحاب الصوامع ، ولكن الحرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم .

وقال آخرون : بل هم جميع أهل الكتابين .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال ثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد ، قال : سألت أبي عن هذه الآية ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ) أهم الحرورية؟ قال : لا ، هم أهل الكتاب ، اليهود والنصارى . أما اليهود فكذبوا بمحمد . وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب ، ولكن الحرورية ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ) فكان سعد يسميهم الفاسقين .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن إبراهيم بن أبي حرة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، في قوله ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) قال : هم اليهود والنصارى .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، [ ص: 127 ] عن أبي حرب بن أبي الأسود عن زاذان ، عن علي بن أبي طالب ، أنه سئل عن قوله ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) قال : هم كفرة أهل الكتاب ، كان أوائلهم على حق ، فأشركوا بربهم ، وابتدعوا في دينهم ، الذي يجتهدون في الباطل ، ويحسبون أنهم على حق ، ويجتهدون في الضلالة ، ويحسبون أنهم على هدى ، فضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ثم رفع صوته ، فقال : وما أهل النار منهم ببعيد .

وقال آخرون : بل هم الخوارج .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان بن سلمة ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الطفيل ، قال : سأل عبد الله بن الكواء عليا عن قوله ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) قال : أنتم يا أهل حروراء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا يحيى بن أيوب ، عن أبي صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن أبي الصهباء البكري ، عن علي بن أبي طالب ، أن ابن الكواء سأله ، عن قول الله عز وجل ( هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) فقال علي : أنت وأصحابك .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الطفيل ، قال : قام ابن الكواء إلى علي ، فقال : من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، قال : ويلك أهل حروراء منهم .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن خالد ابن عشمة ، قال : ثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله ، قال : ثنى أبو الحويرث ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، قال : قال ابن الكواء لعلي بن أبي طالب : ما الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا؟ قال : أنت وأصحابك .

والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن يقال : إن الله عز وجل عنى بقوله ( هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) كل عامل عملا يحسبه فيه مصيبا ، وأنه لله بفعله ذلك مطيع مرض ، وهو بفعله ذلك لله مسخط ، وعن طريق أهل [ ص: 128 ] الإيمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الاجتهاد في ضلالتهم ، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة ، من أهل أي دين كانوا .

وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب قوله ( أعمالا ) ، فكان بعض نحويي البصرة يقول : نصب ذلك لأنه لما أدخل الألف واللام والنون في الأخسرين لم يوصل إلى الإضافة ، وكانت الأعمال من الأخسرين فلذلك نصب ، وقال غيره : هذا باب الأفعل والفعلى ، مثل الأفضل والفضلى ، والأخسر والخسرى ، ولا تدخل فيه الواو ، ولا يكون فيه مفسر ، لأنه قد انفصل بمن هو كقوله : الأفضل والفضلى ، وإذا جاء معه مفسر كان للأول والآخر ، وقال : ألا ترى أنك تقول : مررت برجل حسن وجها ، فيكون الحسن للرجل والوجه ، وكذلك كبير عقلا وما أشبهه قال : وإنما جاز في الأخسرين ، لأنه رده إلى الأفعل والأفعلة . قال : وسمعت العرب تقول : الأولات دخولا والآخرات خروجا ، فصار للأول والثاني كسائر الباب قال : وعلى هذا يقاس .

وقوله : ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ) يقول : هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة ، بل كان على جور وضلالة ، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا : يقول : وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون ، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون ، وهذا من أدل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته ، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية ، أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك ، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم . ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم ، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه ، كانوا مثابين مأجورين عليها ، ولكن القول بخلاف ما قالوا ، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة ، وأن أعمالهم حابطة .

وعنى بقوله : ( أنهم يحسنون صنعا ) عملا والصنع والصنعة والصنيع واحد ، يقال : فرس صنيع بمعنى مصنوع .

التالي السابق


الخدمات العلمية