الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك .

فقال بعضهم : معنى ذلك : مثل الكافر في قلة فهمه عن الله ما يتلى عليه في كتابه ، وسوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به مثل البهيمة التي تسمع الصوت إذا نعق بها ، ولا تعقل ما يقال لها .

ذكر من قال ذلك :

2450 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء " قال : مثل البعير أو مثل الحمار ، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول .

2451 - حدثني محمد بن عبد الله بن زريع قال : حدثنا يوسف بن خالد السمتي قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " كمثل الذي ينعق بما لا يسمع " قال : هو كمثل الشاة ونحو ذلك . [ ص: 309 ]

2452 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله : " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء " ، كمثل البعير والحمار والشاة ، إن قلت لبعضها " كل " - لا يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك ، وكذلك الكافر ، إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته ، لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك .

2453 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : مثل الدابة تنادى فتسمع ولا تعقل ما يقال لها . كذلك الكافر ، يسمع الصوت ولا يعقل .

2454 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف عن مجاهد : " كمثل الذي ينعق بما لا يسمع " قال : مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل .

2455 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " كمثل الذي ينعق " ، مثل ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل ، كمثل البهيمة تسمع النعيق ولا تعقل .

2456 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء " ، يقول : مثل الكافر كمثل البعير والشاة ، يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عني به . [ ص: 310 ]

2457 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء " قال : هو مثل ضربه الله للكافر؛ يقول : مثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها . فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له .

2458 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : هو مثل الكافر ، يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له .

2459 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : سألت عطاء ثم قلت له : يقال : لا تعقل - يعني البهيمة - إلا أنها تسمع دعاء الداعي حين ينعق بها ، فهم كذلك لا يعقلون وهم يسمعون . فقال : كذلك . قال : وقال مجاهد : " الذي ينعق " ، الراعي " بما لا يسمع " من البهائم .

2460 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كمثل الذي ينعق " الراعي " بما لا يسمع " من البهائم .

2461 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط عن السدي : " كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء " ، لا يعقل ما يقال له إلا أن تدعي فتأتي ، أو ينادى بها فتذهب . وأما " الذي ينعق " ، فهو الراعي الغنم ، كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له ، إلا أن يدعى أو ينادى . فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم ، يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام ، يقول الله : ( صم بكم عمي ) [ سورة البقرة : 18 ]

قال أبو جعفر : ومعنى قائلي هذا القول - في تأويلهم ما تأولوا ، على ما حكيت عنهم - : ومثل وعظ الذين كفروا وواعظهم ، كمثل نعق الناعق بغنمه [ ص: 311 ] ونعيقه بها . فأضيف " المثل " إلى الذين كفروا ، وترك ذكر " الوعظ والواعظ " ، لدلالة الكلام على ذلك . كما يقال : " إذا لقيت فلانا فعظمه تعظيم السلطان " ، يراد به : كما تعظم السلطان ، وكما قال الشاعر :


فلست مسلما ما دمت حيا على زيد بتسليم الأمير



يراد به : كما يسلم على الأمير .

وقد يحتمل أن يكون المعنى - على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء - : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله ، كمثل المنعوق به من البهائم ، الذي لا يفقه من الأمر والنهي غير الصوت . وذلك أنه لو قيل له : " اعتلف ، أورد الماء " ، لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله . فكذلك الكافر مثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه - بسوء تدبره إياه وقلة نظره وفكره فيه - مثل هذا المنعوق به فيما أمر به ونهي عنه . فيكون المعنى للمنعوق به ، والكلام خارج على الناعق ، كما قال نابغة بني ذبيان :


وقد خفت ، حتى ما تزيد مخافتي     على وعل في ذي المطارة عاقل



والمعنى : حتى ما تزيد مخافة الوعل على مخافتي ، وكما قال الآخر : [ ص: 312 ]


كانت فريضة ما تقول ، كما     كان الزناء فريضة الرجم



والمعنى : كما كان الرجم فريضة الزنا ، فجعل الزنا فريضة الرجم ، لوضوح معنى الكلام عند سامعه ، وكما قال الآخر :


إن سراجا لكريم مفخره     تحلى به العين إذا ما تجهره



والمعنى : يحلى بالعين ، فجعله تحلى به العين . ونظائر ذلك من كلام العرب أكثر من أن تحصى ، مما توجهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحبه ، لظهور معنى ذلك عند سامعه ، فتقول : " اعرض الحوض على الناقة " ، وإنما تعرض الناقة على الحوض ، وما أشبه ذلك من كلامها .

وقال آخرون : معنى ذلك : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، وذلك الصدى الذي يسمع صوته ، ولا يفهم به عنه الناعق شيئا .

فتأويل الكلام على قول قائلي ذلك : ومثل الذين كفروا وآلهتهم - في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل - كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعق إلا دعاء ونداء ، أي : لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 313 ]

2462 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء " قال : الرجل الذي يصيح في جوف الجبال فيجيبه فيها صوت يراجعه يقال له " الصدى " . فمثل آلهة هؤلاء لهم ، كمثل الذي يجيبه بهذا الصوت ، لا ينفعه ، لا يسمع إلا دعاء ونداء . قال : والعرب تسمي ذلك الصدى .

وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجها آخر غير ذلك . وهو أن يكون معناها : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم ، كمثل الناعق بغنم له من حيث لا تسمع صوته غنمه ، فلا تنتفع من نعقه بشيء ، غير أنه في عناء من دعاء ونداء ، فكذلك الكافر في دعائه آلهته ، إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها ، ولا ينفعه شيء .

قال أبو جعفر : وأولى التأويل عندي بالآية ، التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومن وافقه عليه . وهو أن معنى الآية : ومثل وعظ الكافر وواعظه ، كمثل الناعق بغنمه ونعيقه ، فإنه يسمع نعقه ولا يعقل كلامه ، على ما قد بينا قبل .

فأما وجه جواز حذف " وعظ " اكتفاء بالمثل منه ، فقد أتينا على البيان عنه في قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) [ سورة البقرة : 17 ] ، وفي غيره من نظائره من الآيات ، بما فيه الكفاية عن إعادته .

وإنما اخترنا هذا التأويل ، لأن هذه الآية نزلت في اليهود ، وإياهم عنى الله تعالى ذكره بها ، ولم تكن اليهود أهل أوثان يعبدونها ، ولا أهل أصنام يعظمونها ويرجون نفعها أو دفع ضرها . ولا وجه - إذ كان ذلك كذلك - لتأويل من [ ص: 314 ] تأول ذلك أنه بمعنى : مثل الذين كفروا في ندائهم الآلهة ودعائهم إياها .

فإن قال قائل : وما دليلك على أن المقصود بهذه الآية اليهود؟

قيل : دليلنا على ذلك ما قبلها من الآيات وما بعدها ، فإنهم هم المعنيون به . فكان ما بينهما بأن يكون خبرا عنهم ، أحق وأولى من أن يكون خبرا عن غيرهم ، حتى تأتي الأدلة واضحة بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم . هذا ، مع ما ذكرنا من الأخبار عمن ذكرنا عنه أنها فيهم نزلت ، والرواية التي روينا عن ابن عباس أن الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم . وبما قلنا من أن هذه الآية معني بها [ ص: 315 ] اليهود كان عطاء يقول :

2463 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال لي عطاء في هذه الآية : هم اليهود الذين أنزل الله فيهم : ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا ) إلى قوله : ( فما أصبرهم على النار ) [ سورة البقرة : 174 - 175 ] .

وأما قوله : " ينعق " ، فإنه : يصوت بالغنم "النعيق ، والنعاق" ، ومنه قول الأخطل :


فانعق بضأنك يا جرير ، فإنما     منتك نفسك في الخلاء ضلالا



يعني : صوت به .

التالي السابق


الخدمات العلمية