الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        5155 حدثني عبد الله بن أبي الأسود حدثنا قريش بن أنس عن حبيب بن الشهيد قال أمرني ابن سيرين أن أسأل الحسن ممن سمع حديث العقيقة فسألته فقال من سمرة بن جندب

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ) هو عبد الله بن محمد بن حميد بن الأسود بن أبي الأسود - نسب لجد جده - وربما ينسب لجد أبيه فقيل عبد الله بن الأسود معروف من شيوخ البخاري ، وشيخه قريش بن أنس بصري ثقة يكنى أبا أنس ، كان قد تغير سنة ثلاث ومائتين ، واستمر على ذلك ست سنين ، فمن سمع منه قبل ذلك فسماعه صحيح ، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع ، وقد أخرجه الترمذي عن البخاري عن علي بن المديني عنه ، ولم أره في نسخ الجامع إلا عن عبد الله بن أبي الأسود ، فكأن له فيه شيخين . وقد توقف البرزنجي في صحة هذا الحديث من أجل اختلاط قريش ، وزعم أنه تفرد به وأنه وهم ، وكأنه تبع في ذلك ما حكاه الأثرم عن أحمد أنه ضعف حديث قريش هذا وقال : ما أراه بشيء لكن وجدنا له متابعا أخرجه أبو الشيخ والبزار عن أبي هريرة كما سأذكره ، وأيضا فسماع علي بن المديني وأقرانه من قريش كان قبل اختلاطه ، فلعل أحمد إنما ضعفه لأنه ظن أنه إنما حدث به بعد الاختلاط .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( حديث العقيقة ) لم يقع في البخاري بيان الحديث المذكور وكأنه اكتفى عن إيراده بشهرته ، وقد أخرجه أصحاب السنن من رواية قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الغلام مرتهن بعقيقته ، تذبح عنه يوم السابع ، ويحلق رأسه ، ويسمى " قال الترمذي : حسن صحيح ، وقد جاء مثله عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أخرجه البزار وأبو الشيخ في كتاب العقيقة من رواية إسرائيل عن عبد الله بن المختار [ ص: 508 ] عنه ورجاله ثقات ، فكأن ابن سيرين لما كان الحديث عنده عن أبي هريرة وبلغه أن الحسن يحدث به احتمل عنده أن يكون يرويه عن أبي هريرة أيضا وعن غيره فسأل فأخبر الحسن أنه سمعه من سمرة فقوى الحديث برواية هذين التابعيين الجليلين عن الصحابيين ، ولم تقع في حديث أبي هريرة هذه الكلمة الأخيرة وهي " ويسمى " وقد اختلف فيها أصحاب قتادة فقال أكثرهم " يسمى " بالسين . وقال همام عن قتادة " يدمى " بالدال . قال أبو داود : خولف همام وهو وهم منه ولا يؤخذ به ، قال : ويسمى أصح . ثم ذكره من رواية غير قتادة بلفظ " ويسمى " واستشكل ما قاله أبو داود بما في بقية رواية همام عنده أنهم سألوا قتادة عن الدم كيف يصنع به فقال إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت به أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل رأسه بعد ويحلق . فيبعد مع هذا الضبط أن يقال إن هماما وهم عن قتادة في قوله " ويدمى " إلا أن يقال إن أصل الحديث " ويسمى " وأن قتادة ذكر الدم حاكيا عما كان أهل الجاهلية يصنعونه ، ومن ثم قال ابن عبد البر : لا يحتمل همام في هذا الذي انفرد به ، فإن كان حفظه فهو منسوخ اهـ .

                                                                                                                                                                                                        وقد رجح ابن حزم رواية همام وحمل بعض المتأخرين قوله " ويسمى " على التسمية عند الذبح ، لما أخرج ابن أبي شيبة من طريق هشام عن قتادة قال " يسمى على العقيقة كما سمى على الأضحية : بسم الله عقيقة فلان " ومن طريق سعيد عن قتادة نحوه وزاد " اللهم منك ولك ، عقيقة فلان ، بسم الله والله أكبر . ثم ذبح " وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : يسمى يوم يعق عنه ثم يحلق ، وكان يقول : يطلى رأسه بالدم . وقد ورد ما يدل على النسخ في عدة أحاديث ، منها ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت كانوا في الجاهلية إذا عقوا عن الصبي خضبوا قطنة بدم العقيقة ، فإذا حلقوا رأس الصبي وضعوها على رأسه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوا مكان الدم خلوقا زاد أبو الشيخ " ونهى أن يمس رأس المولود بدم " . وأخرج ابن ماجه من رواية أيوب بن موسى عن يزيد بن عبد الله المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يعق عن الغلام ، ولا يمس رأسه بدم " وهذا مرسل ، فإن يزيد لا صحبة له ، وقد أخرجه البزار من هذا الوجه فقال " عن يزيد بن عبد الله المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم " ومع ذلك فقالوا إنه مرسل ، ولأبي داود والحاكم من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال " كنا في الجاهلية " فذكر نحو حديث عائشة ولم يصرح برفعه ، قال " فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران " وهذا شاهد لحديث عائشة ، ولهذا كره الجمهور التدمية .

                                                                                                                                                                                                        ونقل ابن حزم استحباب التدمية عن ابن عمر وعطاء ولم ينقل ابن المنذر استحبابها إلا عن الحسن وقتادة ، بل عند ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الحسن أنه كره التدمية ، وسيأتي ما يتعلق بالتسمية وآدابها في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى . واختلف في معنى قوله " مرتهن بعقيقته " قال الخطابي : اختلف الناس في هذا ، وأجود ما قيل فيه ما ذهب إليه أحمد بن حنبل قال : هذا في الشفاعة ، يريد أنه إذا لم يعق عنه فمات طفلا لم يشفع في أبويه ، وقيل معناه أن العقيقة لازمة لا بد منها ، فشبه المولود في لزومها وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن ، وهذا يقوي قول من قال بالوجوب ، وقيل المعنى أنه مرهون بأذى شعره ، ولذلك جاء " فأميطوا عنه الأذى " اهـ والذي نقل عن أحمد قاله عطاء الخراساني أسنده عنه البيهقي ، وأخرج ابن حزم عن بريدة الأسلمي قال : إن الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس ، وهذا لو ثبت لكان قولا آخر يتمسك به من قال بوجوب العقيقة ، قال ابن حزم : ومثله عن فاطمة بنت الحسين . وقوله " يذبح عنه يوم السابع " تمسك به من قال إن العقيقة مؤقتة باليوم [ ص: 509 ] السابع ، وأن من ذبح قبله لم يقع الموقع ، وأنها تفوت بعده ، وهو قول مالك . وقال أيضا : إن من مات قبل السابع سقطت العقيقة . وفي رواية ابن وهب عن مالك : أن من لم يعق عنه في السابع الأول عق عنه في السابع الثاني ، قال ابن وهب : ولا بأس أن يعق عنه في السابع الثالث . ونقل الترمذي عن أهل العلم أنهم يستحبون أن تذبح العقيقة يوم السابع ، فإن لم يتهيأ فيوم الرابع عشر ، فإن لم يتهيأ عق عنه يوم أحد وعشرين ولم أر هذا صريحا إلا عن أبي عبد الله البوشنجي ، ونقله صالح بن أحمد عن أبيه . وورد فيه حديث أخرجه الطبراني من رواية إسماعيل بن مسلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه ، وإسماعيل ضعيف ، وذكر الطبراني أنه تفرد به . وعند الحنابلة في اعتبار الأسابيع بعد ذلك روايتان ، وعند الشافعية أن ذكر الأسابيع للاختيار لا للتعيين ، فنقل الرافعي أنه يدخل وقتها بالولادة ، قال : وذكر السابع في الخبر بمعنى أن لا تؤخر عنه اختيارا ، ثم قال : والاختيار أن لا تؤخر عن البلوغ فإن أخرت عن البلوغ سقطت عمن كان يريد أن يعق عنه ، لكن إن أراد أن يعق عن نفسه فعل .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين قال : لو أعلم أني لم يعق عني لعققت عن نفسي . واختاره القفال . ونقل عن نص الشافعي في البويطي أنه لا يعق عن كبير ، وليس هذا نصا في منع أن يعق الشخص عن نفسه ، بل يحتمل أن يريد أن لا يعق عن غيره إذا كبر ، وكأنه أشار بذلك إلى أن الحديث الذي ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة لا يثبت . وهو كذلك ، فقد أخرجه البزار من رواية عبد الله بن محرر - وهو بمهملات - عن قتادة عن أنس ، قال البزار : تفرد به عبد الله وهو ضعيف اهـ . وأخرجه أبو الشيخ من وجهين آخرين : أحدهما من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة وإسماعيل ضعيف أيضا ، وقد قال عبد الرزاق : أنهم تركوا حديث عبد الله بن محرر من أجل هذا الحديث ، فلعل إسماعيل سرقه منه . ثانيهما من رواية أبي بكر المستملي عن الهيثم بن جميل وداود بن المخبر قالا حدثنا عبد الله بن المثنى عن ثمامة عن أنس ، وداود ضعيف لكن الهيثم ثقة ، وعبد الله من رجال البخاري ، فالحديث قوي الإسناد ، وقد أخرجه محمد بن عبد الملك بن أيمن عن إبراهيم بن إسحاق السراج عن عمرو الناقد ، وأخرجه الطبراني في " الأوسط " عن أحمد بن مسعود كلاهما عن الهيثم بن جميل وحده به ، فلولا ما في عبد الله بن المثنى من المقال لكان هذا الحديث صحيحا ، لكن قد قال ابن معين : ليس بشيء ، وقال النسائي : ليس بقوي ، وقال أبو داود : لا أخرج حديثه ، وقال الساجي : فيه ضعف لم يكن من أهل الحديث روى مناكير ، وقال العقيلي : لا يتابع على أكثر حديثه ، قال ابن حبان في الثقات : ربما أخطأ ، ووثقه العجلي والترمذي وغيرهما ، فهذا من الشيوخ الذين إذا انفرد أحدهم بالحديث لم يكن حجة ، وقد مشى الحافظ الضياء على ظاهر الإسناد فأخرج هذا الحديث في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين .

                                                                                                                                                                                                        ويحتمل أن يقال : إن صح هذا الخبر كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما قالوا في تضحيته عمن لم يضح من أمته ، وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " من لم يعق عنه أجزأته أضحيته " وعند ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين والحسن " يجزئ عن الغلام الأضحية من العقيقة " وقوله " يوم السابع " أي من يوم الولادة ، وهل يحسب يوم الولادة ؟ قال ابن عبد البر نص مالك على أن أول السبعة اليوم الذي يلي يوم الولادة ، إلا إن ولد قبل طلوع الفجر ، وكذا نقله البويطي عن الشافعي ، ونقل الرافعي وجهين ورجح الحسبان ، واختلف ترجيح النووي . وقوله " يذبح " بالضم على البناء للمجهول ، فيه أنه لا يتعين الذابح ، وعند الشافعية يتعين من تلزمه نفقة المولود ، وعن الحنابلة يتعين الأب إلا إن تعذر بموت أو امتناع ، قال الرافعي : وكأن الحديث أنه صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين مؤول ، قال النووي : يحتمل أن يكون أبواه حينئذ كانا معسرين أو تبرع [ ص: 510 ] بإذن الأب ، أو قوله " عق " أي أمر ، أو هو من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما ضحى عمن لم يضح من أمته ، وقد عده بعضهم من خصائصه ، ونص مالك على أنه يعق عن اليتيم من ماله ، ومنعه الشافعية ، وقوله " ويحلق رأسه " أي جميعه لثبوت النهي عن القزع كما سيأتي في اللباس ، وحكى الماوردي كراهة حلق رأس الجارية ، وعن بعض الحنابلة يحلق ، وفي حديث علي عند الترمذي والحاكم في حديث العقيقة عن الحسن والحسين " يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره ، قال فوزناه فكان درهما أو بعض درهم " وأخرج أحمد من حديث أبي رافع لما ولدت فاطمة حسنا قالت . يا رسول الله ألا أعق عن ابني بدم ؟ قال : لا ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضة ، ففعلت ، فلما ولدت حسينا فعلت مثل ذلك قال شيخنا في " شرح الترمذي " يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم كان عق عنه ثم استأذنته فاطمة أن تعق هي عنه أيضا فمنعها ، قلت : ويحتمل أن يكون منعها لضيق ما عندهم حينئذ فأرشدها إلى نوع من الصدقة أخف ، ثم تيسر له عن قرب ما عق به عنه ، وعلى هذا فقد يقال يختص ذلك بمن لم يعق عنه ، لكن أخرج سعيد بن منصور من مرسل أبي جعفر الباقر صحيحا " إن فاطمة كانت إذا ولدت ولدا حلقت شعره وتصدقت بزنته ورقا " واستدل بقوله " يذبح ويحلق ويسمى " بالواو على أنه لا يشترط الترتيب في ذلك ، وقد وقع في رواية لأبي الشيخ في حديث سمرة " يذبح يوم سابعه ثم يحلق " وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج يبدأ بالذبح قبل الحلق ، وحكى عن عطاء عكسه ، ونقله الروياني عن نص الشافعي ، وقال البغوي في " التهذيب " يستحب الذبح قبل الحلق ، وصححه النووي في " شرح المهذب " والله أعلم




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية