الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        5251 حدثنا حبان بن موسى أخبرنا عبد الله قال أخبرني يونس عن الزهري قال حدثني أبو عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد يوم الأضحى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصلى قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم عن صيام هذين العيدين أما أحدهما فيوم فطركم من صيامكم وأما الآخر فيوم تأكلون من نسككم قال أبو عبيد ثم شهدت العيد مع عثمان بن عفان فكان ذلك يوم الجمعة فصلى قبل الخطبة ثم خطب فقال يا أيها الناس إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له قال أبو عبيد ثم شهدته مع علي بن أبي طالب فصلى قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث وعن معمر عن الزهري عن أبي عبيد نحوه

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عبد الله ) هو ابن المبارك ، ويونس هو ابن يزيد ، وأبو عبيد مولى ابن أزهر أي عبد الرحمن بن أزهر بن [ ص: 30 ] عوف ابن أخي عبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيد اسمه سعد بن عبيد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قد نهاكم عن صيام هذين العيدين ) تقدمت مباحثه في أواخر كتاب الصيام واستدل به على أن النهي عن الشيء إذا اتحدت جهته لم يجز فعله كصوم يوم العيد فإنه لا ينفك عن الصوم فلا يتحقق فيه جهتان فلا يصح ، بخلاف ما إذا تعددت الجهة كالصلاة في الدار المغصوبة فإن الصلاة تتحقق في غير المغصوب فيصح في المغصوب مع التحريم ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال أبو عبيد ) هو موصول بالسند المذكور .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم شهدت العيد ) لم يبين كونه أضحى أو فطرا ، والظاهر أنه الأضحى الذي قدمه في حديثه عن عمر فتكون اللام فيه للعهد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكان ذلك يوم الجمعة ) أي يوم العيد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قد اجتمع لكم فيه عيدان ) أي يوم الأضحى ويوم الجمعة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من أهل العوالي ) جمع العالية وهي قرى معروفة بالمدينة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلينتظر ) أي يتأخر إلى أن يصلي الجمعة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له ) استدل به من قال بسقوط الجمعة عمن صلى العيد إذا وافق العيد يوم الجمعة ، وهو محكي عن أحمد . وأجيب بأن قوله أذنت له ليس فيه تصريح بعدم العود ، وأيضا فظاهر الحديث في كونهم من أهل العوالي أنهم لم يكونوا ممن تجب عليهم الجمعة لبعد منازلهم عن المسجد ، وقد ورد في أصل المسألة حديث مرفوع .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم شهدته ) أي العيد ، ودل السياق على أن المراد به الأضحى ، وهو يؤيد ما تقدم في حديث عثمان ، وأصرح من ذلك ما وقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي عبيد أنه سمع عليا يقول " يوم الأضحى " وللنسائي من طريق غندر عن معمر بسنده " شهدت عليا في يوم عيد بدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة - ثم قال - سمعت " فذكر المرفوع .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ) زاد عبد الرزاق في روايته فلا تأكلوها بعدها قال القرطبي : اختلف في أول الثلاث التي كان الادخار فيها جائزا ، فقيل أولها يوم النحر ، فمن ضحى فيه جاز له أن يمسك يومين بعده ، ومن ضحى بعده أمسك ما بقي له من الثلاثة ، وقيل أولها يوم يضحي ، فلو ضحى في آخر أيام النحر جاز له أن يمسك ثلاثا بعدها ، ويحتمل أن يؤخذ من قوله " فوق ثلاث " أن لا يحسب اليوم الذي يقع فيه النحر من الثلاث ، وتعتبر الليلة التي تليه وما بعدها . قلت : ويؤيده ما في حديث جابر " كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى " فإن ثلاث منى تتناول يوما بعد يوم النحر لأهل النفر الثاني ، قال الشافعي : لعل عليا لم يبلغه النسخ ، وقال غيره : يحتمل أن يكون الوقت الذي قال علي فيه ذلك كان بالناس حاجة كما وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبذلك جزم ابن حزم فقال : إنما خطب علي بالمدينة في الوقت الذي كان عثمان حوصر فيه ، وكان أهل البوادي قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة فأصابهم الجهد ، فلذلك قال علي ما قال . قلت : أما كون علي خطب به وعثمان محصورا فأخرجه الطحاوي من طريق الليث عن عقيل عن الزهري في هذا الحديث ولفظه " صليت مع علي العيد وعثمان محصور " وأما الحمل المذكور فلما أخرج أحمد والطحاوي أيضا من طريق مخارق بن سليم عن [ ص: 31 ] علي رفعه إني كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، فادخروا ما بدا لكم ثم جمع الطحاوي بنحو ما تقدم . وكذلك يجاب عما أخرج أحمد من طريق أم سليمان قالت " دخلت على عائشة فسألتها عن لحوم الأضاحي ، فقالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها ثم رخص فيها ، فقدم علي من السفر فأتته فاطمة بلحم من ضحاياها فقال : أولم ننه عنه ؟ قالت : إنه قد رخص فيها " فهذا علي قد اطلع على الرخصة ، ومع ذلك خطب بالمنع ، فطريق الجمع ما ذكرته . وقد جزم به الشافعي في الرسالة في آخر باب العلل في الحديث فقال ما نصه : فإذا دفت الدافة ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث ، وإن لم تدف دافة فالرخصة ثابتة بالأكل والتزود والادخار والصدقة ، قال الشافعي ويحتمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث منسوخا في كل حال . قلت : وبهذا الثاني أخذ المتأخرون من الشافعية ، فقال الرافعي : الظاهر أنه لا يحرم اليوم بحال ، وتبعه النووي فقال في " شرح المهذب " : الصواب المعروف أنه لا يحرم الادخار اليوم بحال ، وحكى في شرح مسلم عن جمهور العلماء أنه من نسخ السنة بالسنة ، قال : والصحيح نسخ النهي مطلقا وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة ، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث والأكل إلى متى شاء ا ه وإنما رجح ذلك لأنه يلزم من القول بالتحريم إذا دفت الدافة إيجاب الإطعام ، وقد قامت الأدلة عند الشافعية أنه لا يجب في المال حق سوى الزكاة ، ونقل ابن عبد البر ما يوافق ما نقله النووي فقال : لا خلاف بين فقهاء المسلمين في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، وأن النهي عن ذلك منسوخ ، كذا أطلق ، وليس بجيد ، فقد قال القرطبي : حديث سلمة وعائشة نص على أن المنع كان لعلة ، فلما ارتفعت ارتفع لارتفاع موجبه فتعين الأخذ به ، وبعود الحكم تعود العلة ، فلو قدم على أهل بلد ناس محتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا تعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث . قلت : والتقييد بالثلاث واقعة حال ، وإلا فلو لم تستد الخلة إلا بتفرقة الجميع لزم على هذا التقرير عدم الإمساك ولو ليلة واحدة ، وقد حكى الرافعي عن بعض الشافعية أن التحريم كان لعلة فلما زالت زال الحكم لكن لا يلزم عود الحكم عند عود العلة . قلت : واستبعدوه وليس ببعيد ، لأن صاحبه قد نظر إلى أن الخلة لم تستد يومئذ إلا بما ذكر فأما الآن فإن الخلة تستد بغير لحم الأضحية فلا يعود الحكم إلا لو فرض أن الخلة لا تستد إلا بلحم الأضحية ، وهذا في غاية الندور . وحكى البيهقي عن الشافعي أن النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث كان في الأصل للتنزيه ، قال : وهو كالأمر في قوله - تعالى - : فكلوا منها وأطعموا القانع وحكاه الرافعي عن أبي علي الطبري احتمالا ، وقال المهلب : إنه الصحيح ، لقول عائشة " وليس بعزيمة " والله أعلم . واستدل بهذه الأحاديث على أن النهي عن الأكل فوق ثلاث خاص بصاحب الأضحية ، فأما من أهدي له أو تصدق عليه فلا ، لمفهوم قوله من أضحيته وقد جاء في حديث الزبير بن العوام عند أحمد وأبي يعلى ما يفيد ذلك ولفظه " قلت يا نبي الله ، أرأيت قد نهي المسلمون أن يأكلوا من لحم نسكهم فوق ثلاث فكيف نصنع بما أهدي لنا ؟ قال : أما ما أهدي إليكم فشأنكم به فهذا نص في الهدية ، وأما الصدقة فإن الفقير لا حجر عليه في التصرف فيما يهدى له لأن القصد أن تقع المواساة من الغني للفقير وقد حصلت .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن معمر عن الزهري عن أبي عبيد نحوه ) هذا ظاهره أنه معطوف على السند المذكور ، فيكون من رواية حبان بن موسى عن ابن المبارك عن معمر ، وبهذا جزم أبو العباس الطرقي في " الأطراف " وهو مقتضى صنيع المزي ، لكن أخرجه أبو نعيم في " المستخرج " من طريق الحسن بن سفيان عن حبان بن موسى فساق رواية يونس بتمامها . ثم أخرجه من رواية يزيد بن زريع عن معمر وقال : أخرجه البخاري عقب رواية ابن المبارك عن [ ص: 32 ] يونس قلت : فاحتمل على هذا أن تكون رواية معمر معلقة ، وقد بينت ما فيها من فائدة زائدة قبل ، ويؤيده أن الإسماعيلي أخرجه عن الحسن بن سفيان عن حبان بسنده . ومن طريق ابن وهب عن يونس ومالك كلاهما عن ابن شهاب ، ثم قال : قال البخاري وعن معمر عن الزهري عن أبي عبيد نحوه ولم يذكر الخبر ، أي لم يوصل السند إلى معمر . الحديث الثامن .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية