الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب الكبر وقال مجاهد ثاني عطفه مستكبر في نفسه عطفه رقبته

                                                                                                                                                                                                        5724 حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا معبد بن خالد القيسي عن حارثة بن وهب الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر وقال محمد بن عيسى حدثنا هشيم أخبرنا حميد الطويل حدثنا أنس بن مالك قال إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت [ ص: 505 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 505 ] قوله : ( باب الكبر ) بكسر الكاف وسكون الموحدة ثم راء ، قال الراغب : الكبر والتكبر والاستكبار متقارب ، فالكبر الحالة التي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه . وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره ، وأعظم ذلك أن يتكبر على ربه بأن يمتنع من قبول الحق والإذعان له بالتوحيد والطاعة . والتكبر يأتي على وجهين : أحدهما أن تكون الأفعال الحسنة زائدة على محاسن الغير ومن ثم وصف - سبحانه وتعالى - بالمتكبر ، والثاني أن يكون متكلفا لذلك متشبعا بما ليس فيه ، وهو وصف عامة الناس نحو قوله : كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار والمستكبر مثله ، وقال الغزالي : الكبر على قسمين : فإن ظهر على الجوارح يقال تكبر ، وإلا قيل : في نفسه كبر . والأصل هو الذي في النفس وهو الاسترواح إلى رؤية النفس ، والكبر يستدعي متكبرا عليه يرى نفسه فوقه ومتكبرا به ، وبه ينفصل الكبر عن العجب ، فمن لم يخلق إلا وحده يتصور أن يكون معجبا لا متكبرا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال مجاهد ثاني عطفه مستكبرا في نفسه ، عطفه رقبته ) وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في قوله - تعالى - ثاني عطفه قال رقبته ، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ثاني عطفه قال مستكبرا في نفسه ، ومن طريق قتادة قال : لاوي عنقه . ومن طريق السدي ثاني عطفه أي معرض من العظمة . ومن طريق أبي صخير المدني قال : كان محمد بن كعب يقول : هو الرجل يقول هذا شيء ثنيت عليه رجلي ، فالعطف هو الرجل ، قال أبو صخر : والعرب تقول العطف العنق . وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد أنها نزلت في النضر بن الحارث .

                                                                                                                                                                                                        حديث حارثة بن وهب وقد تقدم شرحه في تفسير سورة " ن " ، والغرض منه وصف المستكبر بأنه من أهل النار . وقوله ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف هو برفع " كل " لأن التقدير هم كل ضعيف إلخ ولا يجوز أن يكون بدلا من " أهل " .

                                                                                                                                                                                                        ثانيهما حديث أنس :

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال محمد بن عيسى ) أي ابن أبي نجيح المعروف بابن الطباع بمهملة مفتوحة وموحدة ثقيلة ، وهو أبو جعفر البغدادي نزيل أذنة بفتح الهمزة والمعجمة والنون ، وهو ثقة عالم بحديث هشيم حتى قال علي بن المديني سمعت يحيى القطان وابن مهدي يسألانه عن حديث هشيم ، وقال أبو حاتم : حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع الثقة المأمون ، ورجحه على أخيه إسحاق بن عيسى وإسحاق أكبر من محمد . وقال أبو داود : كان يتفقه ، وكان يحفظ نحو أربعين ألف حديث ، ومات سنة أربع وعشرين ومائتين ، وحدث عنه أبو داود بلا واسطة . وأخرج الترمذي في " الشمائل " والنسائي وابن ماجه من حديثه بواسطة ، ولم أر له في البخاري سوى هذا الموضع وموضع آخر في الحج " قال محمد بن عيسى حدثنا " قال حماد ولم أر في شيء من نسخ البخاري تصريحه عنه بالتحديث ، وقد قال أبو نعيم بعد تخريجه ذكره البخاري بلا رواية ، وأما الإسماعيلي فإنه قال : قال البخاري قال محمد بن عيسى فذكره ولم يخرج له سندا ، وقد ضاق مخرجه على أبي نعيم أيضا ، فساقه في مستخرجه من طريق البخاري ، وغفل عن كونه في مسند أحمد وأخرجه أحمد عن هشيم شيخ محمد بن عيسى فيه ، وإنما عدل البخاري عن تخريجه عن أحمد بن حنبل لتصريح حميد في رواية محمد بن عيسى بالتحديث ، فإنه عنده عن هشيم " أنبأنا حميد عن أنس " وحميد مدلس ، والبخاري يخرج له ما صرح فيه بالتحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فتنطلق به حيث شاءت ) في رواية أحمد " فتنطلق به في حاجتها " وله من طريق علي بن زيد عن أنس إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما ينزع يده من [ ص: 506 ] يدها حتى تذهب به حيث شاءت وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه ، والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الرفق والانقياد . وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع لذكره المرأة دون الرجل ، والأمة دون الحرة ، وحيث عمم بلفظ الإماء أي أمة كانت ، وبقوله " حيث شاءت " أي من الأمكنة . والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة على ذلك ، وهذا دال على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر - صلى الله عليه وسلم - . وقد ورد في ذم الكبر ومدح التواضع أحاديث ، من أصحها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقيل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا ، قال : الكبر بطر الحق وغمط الناس " والغمط بفتح المعجمة وسكون الميم بعدها مهملة هو الازدراء والاحتقار ، وقد أخرجه الحاكم بلفظ الكبر من بطر الحق وازدرى الناس والسائل المذكور يحتمل أن يكون ثابت بن قيس فقد روى الطبراني بسند حسن عنه أنه سأل عن ذلك ، وكذا أخرج من حديث سواد بن عمرو أنه سأل عن ذلك ، وأخرج عبد بن حميد من حديث ابن عباس رفعه الكبر السفه عن الحق ، وغمص الناس . فقال : يا نبي الله وما هو ؟ قال : السفه أن يكون لك على رجل مال فينكره فيأمره رجل بتقوى الله فيأبى ، والغمص أن يجيء شامخا بأنفه ، وإذا رأى ضعفاء الناس وفقراءهم لم يسلم عليهم ولم يجلس إليهم محقرة لهم " وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مات وهو بريء من الكبر والغلول والدين دخل الجنة وأخرج أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه من تواضع لله درجة رفعه الله درجة حتى يجعله الله في أعلى عليين ، ومن تكبر على الله درجة وضعه الله درجة حتى يجعله في أسفل سافلين وأخرج الطبراني في " الأوسط " عن ابن عمر رفعه إياكم والكبر ، فإن الكبر يكون في الرجل وإن عليه العباءة ورواته ثقات ، وحكى ابن بطال عن الطبري أن المراد بالكبر في هذه الأحاديث الكفر ، بدليل قوله في الأحاديث على الله ثم قال : ولا ينكر أن يكون من الكبر ما هو استكبار على غير الله - تعالى - ولكنه غير خارج عن معنى ما قلناه ; لأن معتقد الكبر على ربه يكون لخلق الله أشد استحقارا انتهى . وقد أخرج مسلم من حديث عياض بن حماد بكسر المهملة وتخفيف الميم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد الحديث ، والأمر بالتواضع نهي عن الكبر فإنه ضده ، وهو أعم من الكفر وغيره واختلف في تأويل ذلك في حق المسلم فقيل : لا يدخل الجنة مع أول الداخلين ، وقيل لا يدخلها بدون مجازاة ، وقيل جزاؤه أن لا يدخلها ولكن قد يعفى عنه ، وقيل ورد مورد الزجر والتغليظ ، وظاهره غير مراد . وقيل معناه لا يدخل الجنة حال دخولها وفي قلبه كبر ، حكاه الخطابي ، واستضعفه النووي فأجاد لأن الحديث سيق لذم الكبر وصاحبه لا للإخبار عن صفة دخول أهل الجنة الجنة قال الطيبي : المقام يقتضي حمل الكبر على من يرتكب الباطل ; لأن تحرير الجواب إن كان استعمال الزينة لإظهار نعمة الله فهو جائز أو مستحب ، وإن كان للبطر المؤدي إلى تسفيه الحق وتحقير الناس والصد عن سبيل الله فهو المذموم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية