الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب القيد في المنام

                                                                                                                                                                                                        6614 حدثنا عبد الله بن صباح حدثنا معتمر سمعت عوفا حدثنا محمد بن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وما كان من النبوة فإنه لا يكذب قال محمد وأنا أقول هذه قال وكان يقال الرؤيا ثلاث حديث النفس وتخويف الشيطان وبشرى من الله فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل قال وكان يكره الغل في النوم وكان يعجبهم القيد ويقال القيد ثبات في الدين وروى قتادة ويونس وهشام وأبو هلال عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأدرجه بعضهم كله في الحديث وحديث عوف أبين وقال يونس لا أحسبه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في القيد قال أبو عبد الله لا تكون الأغلال إلا في الأعناق

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب القيد في المنام ) أي من رأى في المنام أنه مقيد ما يكون تعبيره؟ وظاهر إطلاق الخبر أنه يعبر بالثبات في الدين في جميع وجوهه ، لكن أهل التعبير خصوا ذلك بما إذا لم يكن هناك قرينة أخرى كما لو كان مسافرا أو مريضا فإنه يدل على أن سفره أو مرضه يطول ، وكذا لو رأى في القيد صفة زائدة كمن رأى في رجله قيدا من فضة فإنه يدل على أن يتزوج ، وإن كان من ذهب فإنه لأمر يكون بسبب مال يتطلبه ، وإن كان من صفر فإنه لأمر مكروه أو مال فات ، وإن كان من رصاص فإنه لأمر فيه وهن ، وإن كان من حبل فلأمر في الدين ، وإن كان من خشب فلأمر فيه نفاق ، وإن كان من حطب فلتهمة ، وإن كان من خرقة أو خيط فلأمر لا يدوم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا عبد الله بن صباح ) بفتح المهملة وتشديد الموحدة هو العطار البصري ، وتقدم في الصلاة في " باب السمر بعد العشاء " حدثنا عبد الله بن الصباح ، ولبعضهم عبد الله بن صباح كما هنا ، ولأبي نعيم هنا من رواية محمد بن يحيى بن منده حدثنا عبد الله بن الصباح ، وفي شيوخ البخاري ابن الصباح ثلاثة : عبد الله هذا ومحمد والحسن ، وليس واحد منهم أخا الآخر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا معتمر ) هو ابن سليمان التيمي ، وعوف هو الأعرابي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ) كذا للأكثر ، ووقع في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني بتقديم تكذب على رؤيا المؤمن ، وكذا في رواية محمد بن يحيى ، وكذا في رواية عيسى بن يونس [ ص: 423 ] عن عوف عند الإسماعيلي ، قال الخطابي في " المعالم " في قوله : " إذا اقترب الزمان " قولان : أحدهما أن يكون معناه تقارب زمان الليل وزمان النهار وهو وقت استوائهما أيام الربيع وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبا ، وكذلك هو في الحديث ، والمعبرون يقولون : أصدق الرؤيا ما كان وقت اعتدال الليل والنهار وإدراك الثمار ، ونقله في " غريب الحديث " عن أبي داود السجستاني ثم قال : والمعبرون يزعمون أن أصدق الأزمان لوقوع التعبير وقت انفتاق الأزهار وإدراك الثمار وهما الوقتان اللذان يعتدل فيهما الليل والنهار ، والقول الآخر إن اقتراب الزمان انتهاء مدته إذا دنا قيام الساعة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : يبعد الأول التقييد بالمؤمن ، فإن الوقت الذي تعتدل فيه الطبائع لا يختص به ، وقد جزم ابن بطال بأن الأول هو الصواب ، واستند إلى ما أخرجه الترمذي من طريق معمر عن أيوب في هذا الحديث بلفظ : " في آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا " .

                                                                                                                                                                                                        قال : فعلى هذا فالمعنى إذا اقتربت الساعة وقبض أكثر العلم ودرست معالم الديانة بالهرج والفتنة فكان الناس على مثل الفترة محتاجين إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين كما كانت الأمم تذكر بالأنبياء ، لكن لما كان نبينا خاتم الأنبياء وصار الزمان المذكور يشبه زمان الفترة عوضوا بما منعوا من النبوة بعده بالرؤيا الصادقة التي هي جزء من النبوة الآتية بالتبشير والإنذار انتهى .

                                                                                                                                                                                                        ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه من طريق الأوزاعي عن محمد بن سيرين بلفظ : " إذا قرب الزمان " ، وأخرج البزار من طريق يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين بلفظ : " إذا تقارب الزمان " وسيأتي في كتاب الفتن من وجه آخر عن أبي هريرة " يتقارب الزمان ويرفع العلم " الحديث ، والمراد به اقتراب الساعة قطعا .

                                                                                                                                                                                                        وقال الداودي : المراد بتقارب الزمان نقص الساعات والأيام والليالي انتهى .

                                                                                                                                                                                                        ومراده بالنقص سرعة مرورها ، وذلك قرب قيام الساعة كما ثبت في الحديث الآخر عند مسلم وغيره " يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة والساعة كاحتراق السعفة " ، وقيل إن المراد بالزمان المذكور زمان المهدي عند بسط العدل وكثرة الأمن وبسط الخير والرزق ، فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه فتتقارب أطرافه ، وأما قوله : " لم تكد إلخ " فيه إشارة إلى غلبة الصدق على الرؤيا وإن أمكن أن شيئا منها لا يصدق ، والراجح أن المراد نفي الكذب عنها أصلا لأن حرف النفي الداخل على " كاد " ينفي قرب حصوله ، والنافي لقرب حصول الشيء أدل على نفيه نفسه ؛ ذكره الطيبي .

                                                                                                                                                                                                        وقال القرطبي في " المفهم " : والمراد - والله أعلم - بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث زمان الطائفة الباقية مع عيسى ابن مريم بعد قتله الدجال ، فقد ذكر مسلم في حديث عبد الله بن عمر ما نصه " فيبعث الله عيسى ابن مريم فيمكث في الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضه " الحديث ، قال : فكان أهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالا بعد الصدر الأول وأصدقهم أقوالا ، فكانت رؤياهم لا تكذب ، ومن ثم قال عقب هذا : " وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا " وإنما كان كذلك لأن من كثر صدقه تنور قلبه وقوي إدراكه فانتقشت فيه المعاني على وجه الصحة ، وكذلك من كان غالب حاله الصدق في يقظته استصحب ذلك في نومه فلا يرى إلا صدقا وهذا بخلاف الكاذب والمخلط فإنه يفسد قلبه ويظلم فلا يرى إلا تخليطا وأضغاثا ، وقد يندر المنام أحيانا فيرى الصادق ما لا يصح ويرى الكاذب ما يصح ، ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وهذا يؤيد ما تقدم أن الرؤيا لا تكون إلا من أجزاء النبوة إن صدرت من مسلم صادق صالح ثم ، ومن ثم قيد بذلك في حديث " رؤيا المسلم جزء " فإنه جاء مطلقا مقتصرا على المسلم فأخرج الكافر ، وجاء مقيدا بالصالح تارة وبالصالحة وبالحسنة وبالصادقة كما تقدم بيانه ، فيحمل المطلق على المقيد ، وهو الذي يناسب حاله حال النبي فيكرم بما أكرم به [ ص: 424 ] النبي وهو الاطلاع على شيء من الغيب ، فأما الكافر والمنافق والكاذب والمخلط وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات فإنها لا تكون من الوحي ولا من النبوة ؛ إذ ليس كل من صدق ما يكون خبره ذلك نبوة ، فقد يقول الكاهن كلمة حق وقد يحدث المنجم فيصيب لكن كل ذلك على الندور والقلة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن أبي جمرة : معنى كون رؤيا المؤمن في آخر الزمان لا تكاد تكذب أنها تقع غالبا على الوجه الذي لا يحتاج إلى تعبير فلا يدخلها الكذب ، بخلاف ما قبل ذلك فإنها قد يخفى تأويلها فيعبرها العابر فلا تقع كما قال فيصدق دخول الكذب فيها بهذا الاعتبار ، قال : والحكمة في اختصاص ذلك بآخر الزمان أن المؤمن في ذلك الوقت يكون غريبا كما في الحديث : بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا أخرجه مسلم ، فيقل أنيس المؤمن ومعينه في ذلك الوقت فيكرم بالرؤيا الصادقة .

                                                                                                                                                                                                        قال : ويمكن أن يؤخذ من هذا سبب اختلاف الأحاديث في عدد أجزاء النبوة بالنسبة لرؤيا المؤمن فيقال : كلما قرب الأمر وكانت الرؤيا أصدق حمل على أقل عدد ورد ، وعكسه وما بين ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وتنبغي الإشارة إلى هذه المناسبة فيما تقدم من المناسبات وحاصل ما اجتمع من كلامهم في معنى قوله : إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب إذا كان المراد آخر الزمان ثلاثة أقوال ؛ أحدها : أن العلم بأمور الديانة لما يذهب غالبه بذهاب غالب أهله وتعذرت النبوة في هذه الأمة عوضوا بالمرأى الصادقة ليجدد لهم ما قد درس من العلم ، والثاني : أن المؤمنين لما يقل عددهم ويغلب الكفر والجهل والفسق على الموجودين يؤنس المؤمن ويعان بالرؤيا الصادقة إكراما له وتسلية وعلى هذين القولين لا يختص ذلك بزمان معين بل كلما قرب فراغ الدنيا وأخذ أمر الدين في الاضمحلال تكون رؤيا المؤمن الصادق أصدق ، والثالث : أن ذلك خاص بزمان عيسى ابن مريم ، وأولها أولاها ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ورؤيا المؤمن جزء ) الحديث هو معطوف على جملة الحديث الذي قبله وهو " إذا اقترب الزمان " الحديث ، فهو مرفوع أيضا ، وقد تقدم شرحه مستوفى قريبا ، وقوله : وما كان من النبوة فإنه لا يكذب هذا القدر لم يتقدم في شيء من طريق الحديث المذكور ، وظاهر إيراده هنا أنه مرفوع ، ولإن كان كذلك فإنه أولى ما فسر به المراد من النبوة في الحديث وهو صفة الصدق ، ثم ظهر لي أن قوله بعد هذا " قال محمد : وأنا أقول هذه " الإشارة في قوله : " هذه " للجملة المذكورة ، وهذا هو السر في إعادة قوله : " قال " بعد قوله : " هذا " ثم رأيت في " بغية النقاد لابن المواق " أن عبد الحق أغفل التنبيه على أن هذه الزيادة مدرجة وأنه لا شك في إدراجها ، فعلى هذا فهي من قول ابن سيرين وليست مرفوعة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وأنا أقول هذه ) كذا لأبي ذر وفي جميع الطرق وكذا ذكره الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما ، ووقع في شرح ابن بطال " وأنا أقول هذه الأمة وكان يقال إلخ " .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وليست هذه اللفظة في شيء من نسخ صحيح البخاري ولا ذكرها عبد الحق في جمعه ولا الحميدي ولا من أخرج حديث عوف من أصحاب الكتب والمسانيد ، وقد تقلده عياض فذكره كما ذكره ابن بطال وتبعه في شرحه فقال : خشي ابن سيرين أن يتأول أحد معنى قوله : " وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا " أنه إذا تقارب الزمان لم يصدق إلا رؤيا الرجل الصالح فقال : وأنا أقول هذه الأمة " يعني رؤيا هذه الأمة صادقة كلها صالحها وفاجرها ليكون صدق رؤياهم زاجرا لهم وحجة عليهم لدروس أعلام الدين وطموس آثاره بموت العلماء وظهور المنكر انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وهذا مرتب على ثبوت هذه الزيادة وهي لفظة " الأمة " ولم أجدها في شيء من الأصول ، وقد قال أبو عوانة الإسفرايني بعد أن أخرجه موصولا مرفوعا من طريق هشام عن ابن سيرين : هذا لا يصح مرفوعا عن ابن [ ص: 425 ] سيرين .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وإلى ذلك أشار البخاري في آخره بقوله : وحديث عوف أبين أي حيث فصل المرفوع من الموقوف .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال : وكان يقال الرؤيا ثلاث إلخ ) قائل " قال " هو محمد بن سيرين ، وأبهم القائل في هذه الرواية وهو أبو هريرة ، وقد رفعه بعض الرواة ووقفه بعضهم ، وقد أخرجه أحمد عن هوذة بن خليفة عن عوف بسنده مرفوعا الرؤيا ثلاث الحديث مثله .

                                                                                                                                                                                                        وأخرجه الترمذي والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الرؤيا ثلاث ، فرؤيا حق ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من طريق عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين مرفوعا أيضا بلفظ : الرؤيا ثلاث ، فالرؤيا الصالحة بشرى من الله والباقي نحوه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حديث النفس وتخويف الشيطان وبشرى من الله ) وقع في حديث عوف بن مالك عند ابن ماجه بسند حسن رفعه الرؤيا ثلاث منها أهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم ، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه ، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وليس الحصر مرادا من قوله : " ثلاث " لثبوت نوع رابع في حديث أبي هريرة في الباب وهو حديث النفس ، وليس في حديث أبي قتادة وأبي سعيد الماضيين سوى ذكر وصف الرؤيا بأنها مكروهة ومحبوبة أو حسنة وسيئة ، وبقي نوع خامس وهو تلاعب الشيطان ، وقد ثبت عند مسلم من حديث جابر قال : " جاء أعرابي فقال : يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي قطع فأنا أتبعه " وفي لفظ : " فقد خرج فاشتددت في أثره ، فقال : لا تخبر بتلاعب الشيطان بك في المنام " ، وفي رواية له : " إذا تلاعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يخبر به الناس " . ونوع سادس وهو رؤيا ما يعتاده الرائي في اليقظة ، كمن كانت عادته أن يأكل في وقت فنام فيه فرأى أنه يأكل أو بات طافحا من أكل أو شرب فرأى أنه يتقيأ ، وبينه وبين حديث النفس عموم وخصوص . وسابع وهو الأضغاث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد ، وليقم فليصل ) زاد في رواية هوذة " فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقصها لمن يشاء ، وإذا رأى شيئا يكرهه " فذكر مثله .

                                                                                                                                                                                                        ووقع في رواية أيوب عن محمد بن سيرين " فيصل ولا يحدث بها الناس " وزاد في رواية سعيد بن أبي عروبة عن ابن سيرين عند الترمذي " وكان يقول لا تقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح " وهذا ورد معناه مرفوعا في حديث أبي رزين عند أبي داود والترمذي وابن ماجه " ولا يقصها إلا على واد أو ذي رأي " ، وقد تقدم شرح هذه الزيادة في " باب الرؤيا من الله تعالى " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال : وكان يكره الغل في النوم ، ويعجبهم القيد وقال : القيد ثبات في الدين ) كذا ثبت هنا بلفظ الجمع في " يعجبهم " والإفراد في " يكره ويقول " ، قال الطيبي : ضمير الجمع لأهل التعبير ، وكذا قوله : " وكان يقال " ، قال المهلب : الغل يعبر بالمكروه لأن الله أخبر في كتابه أنه من صفات أهل النار بقوله تعالى : إذ الأغلال في أعناقهم الآية ، وقد يدل على الكفر ، وقد يعبر بامرأة تؤذي .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن العربي : إنما أحبوا القيد لذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - له في قسم المحمود فقال : " قيد الإيمان الفتك " ، وأما الغل فقد كره شرعا في المفهوم كقوله : ( خذوه فغلوه - و إذ الأغلال في أعناقهم - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و - غلت أيديهم وإذا جعل القيد ثباتا في الدين لأن المقيد لا يستطيع المشي فضرب مثلا للإيمان الذي يمنع عن المشي إلى الباطل .

                                                                                                                                                                                                        وقال النووي : قال العلماء إنما أحب القيد لأن محله الرجل وهو كف عن المعاصي والشر والباطل ، [ ص: 426 ] وأبغض الغل لأن محله العنق وهو صفة أهل النار .

                                                                                                                                                                                                        وأما أهل التعبير فقالوا : إن القيد ثبات في الأمر الذي يراه الرائي بحسب من يرى ذلك له ، وقالوا إن انضم الغل إلى القيد دل على زيادة المكروه ، وإذا جعل الغل في اليدين حمد لأنه كف لهما عن الشر ، وقد يدل على البخل بحسب الحال . وقالوا أيضا : إن رأى أن يديه مغلولتان فهو بخيل ، وإن رأى أنه قيد وغل فإنه يقع في سجن أو شدة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد يكون الغل في بعض المرائي محمودا كما وقع لأبي بكر الصديق فأخرج أبو بكر بن أبي شيبة بسند صحيح عن مسروق قال : " مر صهيب بأبي بكر فأعرض عنه ، فسأله فقال : رأيت يدك مغلولة على باب أبي الحشر رجل من الأنصار ، فقال أبو بكر : جمع لي ديني إلى يوم الحشر .

                                                                                                                                                                                                        وقال الكرماني : اختلف في قوله وكان يقال هل هو مرفوع أو لا فقال بعضهم من قوله : " وكان يقال " إلى قوله : " في الدين " مرفوع كله ، وقال بعضهم هو كله كلام ابن سيرين وفاعل " كان يكره " أبو هريرة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : أخذه من كلام الطيبي فإنه قال : يحتمل أن يكون مقولا للراوي عن ابن سيرين فيكون اسم كان ضميرا لابن سيرين وأن يكون مقولا لابن سيرين واسم كان ضمير أبي هريرة أو النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن ابن سيرين وقال في آخره : لا أدري هو في الحديث أو قاله ابن سيرين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ورواه قتادة ويونس وهشام وأبو هلال عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم ) يعني أصل الحديث ، وأما من قوله : " وكان يقال " فمنهم من رواه بتمامه مرفوعا ومنهم من اقتصر على بعضه كما سأبينه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وأدرجه بعضهم كله في الحديث ) يعني جعله كله مرفوعا ، والمراد به رواية هشام عن قتادة كما سأبينه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وحديث عوف أبين ) أي حيث فصل المرفوع من الموقوف ولا سيما تصريحه بقول ابن سيرين " وأنا أقول هذه " فإنه دال على الاختصاص بخلاف ما قال فيه " وكان يقال " فإن فيها الاحتمال بخلاف أول الحديث فإنه صرح برفعه ، وقد اقتصر بعض الرواة عن عوف على بعض ما ذكره معتمر بن سليمان عنه كما بينته من رواية هوذة وعيسى بن يونس .

                                                                                                                                                                                                        قال القرطبي : ظاهر السياق أن الجميع من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، غير أن أيوب هو الذي روى هذا الحديث عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ، وقد أخبر عن نفسه أنه شك أهو من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من قول أبي هريرة فلا يعول على ذلك الظاهر .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وهو حصر مردود ، وكأنه تكلم عليه بالنسبة لرواية مسلم خاصة ؛ فإن مسلما ما أخرج طريق عوف هذه ولكنه أخرج طريق قتادة عن محمد بن سيرين ، فلا يلزم من كون أيوب شك أن لا يعول على رواية من لم يشك وهو قتادة مثلا ، لكن لما كان في الرواية المفصلة زيادة فرجحت .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال يونس لا أحسبه إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القيد ) يعني أنه شك في رفعه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال أبو عبد الله ) هو المصنف .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لا تكون الأغلال إلا في الأعناق ) كأنه يشير إلى الرد على من قال : قد يكون الغل في غير العنق كاليد والرجل ، والغل بضم المعجمة وتشديد اللام واحد الأغلال ، قال : وقد أطلق بعضهم الغل على ما تربط به اليد ، وممن ذكره أبو علي القالي وصاحب المحكم وغيرهما قالوا : الغل جامعة تجعل في العنق أو اليد والجمع [ ص: 427 ] أغلال ، ويد مغلولة جعلت في الغل ، ويؤيده قوله تعالى : غلت أيديهم كذا استشهد به الكرماني ، وفيه نظر لأن اليد تغل في العنق وهو عند أهل التعبير عبارة عن كفهما عن الشر ، ويؤيده منام صهيب في حق أبي بكر الصديق كما تقدم قريبا ، فأما رواية قتادة المعلقة فوصلها مسلم والنسائي من رواية معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي عن أبيه عن قتادة ولفظ النسائي بالسند المذكور " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول : الرؤيا الصالحة بشارة من الله والتحزين من الشيطان ، ومن الرؤيا ما يحدث به الرجل نفسه ، فإذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليقم فليصل ، وأكره الغل في النوم ، ويعجبني القيد فإن القيد ثبات في الدين " .

                                                                                                                                                                                                        وأما مسلم فإنه ساقه بسنده عقب رواية معمر عن أيوب التي فيها " قال أبو هريرة فيعجبني القيد وأكره الغل ، القيد ثبات في الدين " ، قال مسلم فأدرج يعني هشاما عن قتادة في الحديث قوله : " وأكره الغل إلخ " ولم يذكر " الرؤيا جزء " الحديث ، وكذلك رواه أيوب عن محمد بن سيرين قال " قال أبو هريرة أحب القيد في النوم وأكره الغل ، القيد في النوم ثبات في الدين " أخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية سفيان بن عيينة عنه ، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من رواية عبد الوهاب الثقفي عن أيوب فذكر حديث : " إذا اقترب الزمان " الحديث ، ثم قال " ورؤيا المسلم جزء من " الحديث ، ثم قال : والرؤيا ثلاث الحديث ، ثم قال بعده : " قال وأحب القيد وأكره الغل ، القيد ثبات في الدين " فلا أدري هو في الحديث أو قاله ابن سيرين ، هذا لفظ مسلم ، ولم يذكر أبو داود ولا الترمذي قوله : " فلا أدري إلخ " .

                                                                                                                                                                                                        وأخرجه الترمذي وأحمد والحاكم من رواية معمر عن أيوب فذكر الحديث الأول ونحو الثاني ثم قال بعدهما : قال أبو هريرة : يعجبني القيد إلخ ، قال : " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤيا المؤمن جزء إلخ " .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخرج الترمذي والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة حديث الرؤيا ثلاثة مرفوعا كما أشرت إليه قبل هذا ثم قال بعده وكان يقول يعجبني القيد الحديث ، وبعده وكان يقول : من رآني فإني أنا هو الحديث وبعده وكان يقول : لا تقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح وهذا ظاهر في أن الأحاديث كلها مرفوعة .

                                                                                                                                                                                                        وأما رواية يونس وهو ابن عبيد فأخرجها البزار في مسنده من طريق أبي خلف وهو عبد الله بن عيسى الخزاز بمعجمات البصري عن يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : " إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ، وأحب القيد وأكره الغل " قال : ولا أعلمه إلا وقد رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال البزار : روي عن محمد من عدة أوجه ، وإنما ذكرناه من رواية يونس لعزة ما أسند يونس عن محمد بن سيرين .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد أخرج ابن ماجه من طريق أبي بكر الهذلي عن ابن سيرين حديث القيد موصولا مرفوعا ولكن الهذلي ضعيف ، وأما رواية هشام فقال أحمد : " حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام هو ابن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا اقترب الزمان الحديث ، ورؤيا المؤمن الحديث ، وأحب القيد في النوم الحديث ، والرؤيا ثلاث الحديث ، فساق الجميع مرفوعا ، وهكذا أخرجه الدارمي من رواية مخلد بن الحسين عن هشام ، وأخرجه الخطيب في المدرج من طريق علي بن عاصم عن خالد وهشام عن ابن سيرين مرفوعا .

                                                                                                                                                                                                        قال الخطيب : والمتن كله مرفوع إلا ذكر القيد والغل فإنه قول أبي هريرة أدرج في الخبر ، وبينه معمر عن أيوب ، وأخرج أبو عوانة في صحيحه من طريق عبد الله بن بكر عن هشام قصة القيد وقال : الأصح أن هذا من قول ابن سيرين . وقد أخرجه مسلم من طريق حماد بن زيد عن هشام بن حسان وأيوب جميعا عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : " إذا اقترب الزمان " قال وساق الحديث ولم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                        وكذا أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة عن هشام موقوفا وزاد في آخره " قال أبو هريرة : اللبن في المنام الفطرة " ، وأما رواية أبي هلال واسمه [ ص: 428 ] محمد بن سليم الراسبي عن محمد بن سيرين فلم أقف عليها موصولة إلى الآن ، وأخرج أحمد في الزهد عن عثمان عن حماد بن زيد عن أيوب قال : " رأيت ابن سيرين مقيدا في المنام " وهذا يشعر بأن ابن سيرين كان يعتمد في تعبير القيد على ما في الخبر فأعطي هو ذلك وكان كذلك .

                                                                                                                                                                                                        قال القرطبي : هذا الحديث وإن اختلف في رفعه ووقفه فإن معناه صحيح ، لأن القيد في الرجلين تثبيت للمقيد في مكانه فإذا رآه من هو على حالة كان ذلك دليلا على ثبوته على تلك الحالة ، وأما كراهة الغل فلأن محله الأعناق نكالا وعقوبة وقهرا وإذلالا ، وقد يسحب على وجهه ويخر على قفاه فهو مذموم شرعا وعادة ، فرؤيته في العنق دليل على وقوع حال سيئة للرائي تلازمه ولا ينفك عنها ، وقد يكون ذلك في دينه كواجبات فرط فيها أو معاص ارتكبها أو حقوق لازمة له لم يوفها أهلها مع قدرته ، وقد تكون في دنياه كشدة تعتريه أو تلازمه .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية