الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        7068 حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام حدثنا إسحاق بن عبد الله سمعت عبد الرحمن بن أبي عمرة قال سمعت أبا هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال إن عبدا أصاب ذنبا وربما قال أذنب ذنبا فقال رب أذنبت وربما قال أصبت فاغفر لي فقال ربه أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا أو أذنب ذنبا فقال رب أذنبت أو أصبت آخر فاغفره فقال أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا وربما قال أصاب ذنبا قال قال رب أصبت أو قال أذنبت آخر فاغفره لي فقال أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي ثلاثا فليعمل ما شاء

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث السادس عشر : قوله ( حدثنا أحمد بن إسحاق ) هو السرماري بفتح المهملة وبكسرها وبسكون الراء ، تقدم بيانه في ذكر بني إسرائيل و " عمرو بن عاصم " هو الكلابي البصري يكنى أبا عثمان وقد حدث عنه البخاري بلا واسطة في " كتاب الصلاة " وغيرها ، فنزل البخاري في هذا السند بالنسبة لهمام درجة ، وقد وقع هذا الحديث لمسلم عاليا فإنه أخرجه من طريق حماد بن سلمة عن إسحاق ، نعم وأخرجه من طريق همام نازلا كالبخاري ، و " إسحاق بن عبد الله " هو ابن أبي طلحة الأنصاري التابعي المشهور ، " وعبد الرحمن بن أبي عمرة " تابعي جليل من أهل المدينة ، له في البخاري عن أبي هريرة عشرة أحاديث غير هذا الحديث ، واسم أبيه كنيته وهو أنصاري صحابي ، ويقال إن لعبد الرحمن رؤية ، وقال ابن أبي حاتم ليست له صحبة ولهم عبد الرحمن بن أبي عمرة آخر أدركه مالك ، وقال ابن عبد البر هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمرة نسب لجده . قلت : فعلى هذا هو ابن أخي الراوي عنه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إن عبدا أصاب ذنبا وربما قال أذنب ذنبا ) كذا تكرر هذا الشك في هذا الحديث من هذا الوجه ، ولم يقع في رواية حماد بن سلمة ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال " أذنب عبد ذنبا " وكذا في بقية المواضع .

                                                                                                                                                                                                        قوله : فقال ربه أعلم ) بهمزة استفهام والفعل الماضي .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ويأخذ به ) أي يعاقب فاعله ، وفي رواية حماد " ويأخذ بالذنب " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ثم مكث ما شاء ) أي من الزمان وسقط هذا من رواية حماد .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ثم أصاب ذنبا ) في رواية حماد ثم عاد فأذنب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : في آخره غفرت لعبدي ) في رواية حماد : اعمل ما شئت فقد غفرت لك " قال ابن بطال : في هذا الحديث أن المصر على المعصية في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له مغلبا الحسنة التي جاء بها وهي اعتقاده أن له ربا خالقا يعذبه ويغفر له واستغفاره إياه على ذلك يدل عليه قوله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ولا حسنة أعظم من التوحيد ، فإن قيل : إن استغفاره ربه توبة منه قلنا ليس الاستغفار أكثر من طلب المغفرة ، وقد يطلبها المصر والتائب ولا دليل في الحديث على أنه تائب مما سأل الغفران عنه ؛ لأن حد التوبة الرجوع عن الذنب والعزم أن لا يعود إليه والإقلاع عنه والاستغفار بمجرده لا يفهم منه ذلك انتهى . وقال غيره : شروط التوبة ثلاثة : الإقلاع والندم والعزم على أن لا يعود ، والتعبير بالرجوع عن الذنب لا يفيد معنى الندم بل هو إلى معنى الإقلاع أقرب وقال بعضهم : يكفي في التوبة تحقق الندم على وقوعه منه فإنه يستلزم الإقلاع عنه والعزم على عدم العود فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه ومن ثم جاء الحديث : " الندم توبة " وهو حديث حسن من حديث ابن مسعود أخرجه ابن ماجه وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان من حديث أنس وصححه ، وقد تقدم البحث في [ ص: 480 ] ذلك في باب التوبة من أوائل " كتاب الدعوات " مستوفى ، وقال القرطبي في المفهم : يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار وعلى عظيم فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه ؛ لكن هذا الاستغفار هو الذي ثبت معناه في القلب مقارنا للسان لينحل به عقد الإصرار ويحصل معه الندم فهو ترجمة للتوبة ، ويشهد له حديث : خياركم كل مفتن تواب ، ومعناه الذي يتكرر منه الذنب والتوبة فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة لا من قال أستغفر الله بلسانه وقلبه مصر على تلك المعصية ، فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى الاستغفار . قلت : ويشهد له ما أخرجهابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس مرفوعا التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه والراجح أن قوله " والمستغفر " إلى آخره موقوف وأوله عند ابن ماجه والطبراني من حديث ابن مسعود وسنده حسن ، وحديث خياركم كل مفتن تواب ذكره في مسند الفردوس عن علي قال القرطبي : وفائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه ؛ لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة ؛ لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها ؛ لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه ، قال النووي في الحديث : إن الذنوب ولو تكررت مائة مرة بل ألفا وأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته ، وقوله : " اعمل ما شئت " معناه ما دمت تذنب فتتوب غفرت لك ، وذكر في " كتاب الأذكار " عن الربيع بن خيثم أنه قال : لا تقل : أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنبا وكذبا إن لم تفعل بل قل : اللهم اغفر لي وتب علي ، قال النووي هذا حسن ، وأما كراهية أستغفر الله وتسميته كذبا فلا يوافق عليه ؛ لأن معنى أستغفر الله أطلب مغفرته وليس هذا كذبا ، قال ويكفي في رده حديث ابن مسعود بلفظ : من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف، أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الحاكم . قلت : هذا في لفظ أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ، وأما أتوب إليه فهو الذي عنى الربيع رحمه الله أنه كذب وهو كذلك إذا قاله ولم يفعل التوبة كما قال ، وفي الاستدلال للرد عليه بحديث ابن مسعود نظر لجواز أن يكون المراد منه ما إذا قالها وفعل شروط التوبة ، ويحتمل أن يكون الربيع قصد مجموع اللفظين لا خصوص أستغفر الله فيصح كلامه كله والله أعلم . ورأيت في الحلبيات للسبكي الكبير : الاستغفار طلب المغفرة إما باللسان أو بالقلب أو بهما ، فالأول فيه نفع ؛ لأنه خير من السكوت ؛ ولأنه يعتاد قول الخير ، والثاني نافع جدا ، والثالث أبلغ منهما لكنهما لا يمحصان الذنب حتى توجد التوبة ، فإن العاصي المصر يطلب المغفرة ولا يستلزم ذلك وجود التوبة منه ، إلى أن قال : والذي ذكرته من أن معنى الاستغفار هو غير معنى التوبة هو بحسب وضع اللفظ ؛ لكنه غلب عند كثير من الناس أن لفظ أستغفر الله معناه التوبة فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة لا محالة ، ثم قال : وذكر بعض العلماء أن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار لقوله تعالى وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه والمشهور أنه لا يشترط .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية