الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة

                                                                                                                                                                                                        760 حدثنا مسدد قال أخبرني يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال حدثنا سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام فقال ارجع فصل فإنك لم تصل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا فقال والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره فعلمني قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم الركوع بالإعادة ) قال الزين بن المنير : هذه من التراجم الخفية ، وذلك أن الخبر لم يقع فيه بيان ما نقصه المصلي المذكور ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - لما قال له ثم اركع حتى تطمئن راكعا إلى آخر ما ذكر له من الأركان اقتضى ذلك تساويها في الحكم لتناول الأمر كل فرد منها ، فكل من لم يتم ركوعه أو سجوده أو غير ذلك مما ذكر مأمور بالإعادة . قلت : ووقع في حديث رفاعة بن رافع عند ابن أبي شيبة في هذه القصة " دخل رجل فصلى صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها " فالظاهر أن المصنف أشار بالترجمة إلى ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عبيد الله ) هو ابن عمر العمري .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبيه ) قال الدارقطني : خالف يحيى القطان أصحاب عبيد الله كلهم في هذا الإسناد ، [ ص: 324 ] فإنهم لم يقولوا عن أبيه ؛ ويحيى حافظ قال : فيشبه أن يكون عبيد الله حدث به على الوجهين . وقال البزار : لم يتابع يحيى عليه ، ورجح الترمذي رواية يحيى . قلت : لكل من الروايتين وجه مرجح ، أما رواية يحيى فللزيادة من الحافظ ، وأما الرواية الأخرى فللكثرة ، ولأن سعيدا لم يوصف بالتدليس وقد ثبت سماعه من أبي هريرة ، ومن ثم أخرج الشيخان الطريقين . فأخرج البخاري طريق يحيى هنا وفي " باب وجوب القراءة " وأخرج في الاستئذان طريق عبيد الله بن النمير ، وفي الأيمان والنذور طريق أسامة كلاهما عن عبيد الله ليس فيه عن أبيه ، وأخرجه مسلم من رواية الثلاثة .

                                                                                                                                                                                                        وللحديث طريق أخرى من غير رواية أبي هريرة أخرجها أبو داود والنسائي من رواية إسحاق بن أبي طلحة ومحمد بن إسحاق ومحمد بن عمرو ومحمد بن عجلان وداود بن قيس كلهم عن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع الزرقي عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع ، فمنهم من لم يسم رفاعة قال " عن عم له بدري " ومنهم من لم يقل عن أبيه ، ورواه النسائي والترمذي من طريق يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن جده عن رفاعة لكن لم يقل الترمذي عن أبيه ، وفيه اختلاف آخر نذكره قريبا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فدخل رجل ) في رواية ابن نمير " ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في ناحية المسجد " وللنسائي من رواية إسحاق بن أبي طلحة " بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس ونحن حوله " وهذا الرجل هو خلاد بن رافع جد علي بن يحيى راوي الخبر ، بينه ابن أبي شيبة عن عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن علي بن يحيى عن رفاعة أن خلادا دخل المسجد . وروى أبو موسى في الذيل من جهة ابن عيينة عن ابن عجلان عن علي بن يحيى بن عبد الله بن خلاد عن أبيه عن جده أنه دخل المسجد اهـ .

                                                                                                                                                                                                        وفيه أمران : زيادة عبد الله في نسب علي بن يحيى ، وجعل الحديث من رواية خلاد جد علي . فأما الأول فوهم من الراوي عن ابن عيينة ، وأما الثاني فمن ابن عيينة لأن سعيد بن منصور قد رواه عنه كذلك لكن بإسقاط عبد الله ، والمحفوظ أنه من حديث رفاعة ، كذلك أخرجه أحمد عن يحيى بن سعيد القطان وابن أبي شيبة عن أبي خالد . الأحمر كلاهما عن محمد بن عجلان . وأما ما وقع عند الترمذي " إذ جاء رجل كالبدوي فصلى فأخف صلاته " فهذا لا يمنع تفسيره بخلاد لأن رفاعة شبهه بالبدوي لكونه أخف الصلاة أو لغير ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فصلى ) زاد النسائي من رواية داود بن قيس " ركعتين " وفيه إشعار بأنه صلى نفلا . والأقرب أنها تحية المسجد ، وفي الرواية المذكورة وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمقه في صلاته زاد في رواية إسحاق بن أبي طلحة " ولا ندري ما يعيب منها " وعند ابن أبي شيبة من رواية أبي خالد " يرمقه ونحن لا نشعر " وهذا محمول على حالهم في المرة الأولى ، وهو مختصر من الذي قبله كأنه قال : ولا نشعر بما يعيب منها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم جاء فسلم ) في رواية أبي أسامة " فجاء فسلم " وهي أولى لأنه لم يكن بين صلاته ومجيئه تراخ .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - ) في رواية مسلم وكذا في رواية ابن نمير في الاستئذان فقال وعليك السلام وفي هذا تعقب على ابن المنير حيث قال فيه : إن الموعظة في وقت الحاجة أهم من رد السلام ، ولأنه لعله لم يرد عليه السلام تأديبا على جهله فيؤخذ منه التأديب بالهجر وترك السلام اهـ . والذي وقفنا عليه من نسخ الصحيحين ثبوت الرد في هذا الموضع وغيره ، إلا الذي في الأيمان والنذور وقد ساق الحديث [ ص: 325 ] صاحب " العمدة " بلفظ الباب إلا أنه حذف منه " فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - " فلعل ابن المنير اعتمد على النسخة التي اعتمد عليها صاحب العمدة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ارجع ) في رواية ابن عجلان فقال " أعد صلاتك " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فإنك لم تصل ) قال عياض : فيه أن أفعال الجاهل في العبادة على غير علم لا تجزئ ، وهو مبني على أن المراد بالنفي نفي الإجزاء وهو الظاهر ، ومن حمله على نفي الكمال تمسك بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بعد التعليم بالإعادة فدل على إجزائها وإلا لزم تأخير البيان ، كذا قاله بعض المالكية وهو المهلب ومن تبعه ، وفيه نظر لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمره في المرة الأخيرة بالإعادة ، فسأله التعليم فعلمه ، فكأنه قال له أعد صلاتك على هذه الكيفية ، أشار إلى ذلك ابن المنير ، وسيأتي في آخر الكلام على الحديث مزيد بحث في ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثلاثا ) في رواية ابن نمير " فقال في الثالثة أو في التي بعدها " وفي رواية أبي أسامة " فقال في الثانية أو الثالثة " وتترجح الأولى لعدم وقوع الشك فيها ولكونه - صلى الله عليه وسلم - كان من عادته استعمال الثلاث في تعليمه غالبا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فعلمني ) في رواية يحيى بن علي فقال الرجل فأرني وعلمني فإنما أنا بشر أصيب وأخطئ فقال : أجل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ) في رواية ابن نمير إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر وفي رواية يحيى بن علي فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد وأقم . وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة عند النسائي إنها لم تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله ويحمده ويمجده " وعند أبي داود " ويثني عليه " بدل ويمجده .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ) لم تختلف الروايات في هذا عن أبي هريرة ، وأما رفاعة ففي رواية إسحاق المذكورة ويقرأ ما تيسر من القرآن مما علمه الله وفي رواية يحيى بن علي فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وكبره وهلله . وفي رواية محمد بن عمرو عند أبي داود ثم اقرأ بأم القرآن أو بما شاء الله . ولأحمد وابن حبان من هذا الوجه ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت ترجم له ابن حبان بباب فرض المصلي قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حتى تطمئن راكعا ) في رواية أحمد هذه القريبة فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك وتمكن لركوعك . وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة " ثم يكبر فيركع حتى تطمئن مفاصله ويسترخي " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حتى تعتدل قائما ) في رواية ابن نمير عند ابن ماجه حتى تطمئن قائما أخرجه ابن أبي شيبة عنه ، وقد أخرج مسلم إسناده بعينه في هذا الحديث لكن لم يسق لفظه فهو على شرطه ، وكذا أخرجه إسحاق ابن راهويه في مسنده عن أبي أسامة ، وهو في مستخرج أبي نعيم من طريقه ، وكذا أخرجه السراج عن [ ص: 326 ] يوسف بن موسى أحد شيوخ البخاري عن أبي أسامة ، فثبت ذكر الطمأنينة في الاعتدال على شرط الشيخين ، ومثله في حديث رفاعة عند أحمد وابن حبان ، وفي لفظ لأحمد فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها وعرف بهذا أن قول إمام الحرمين : في القلب من إيجابها - أي الطمأنينة في الرفع من الركوع - شيء لأنها لم تذكر في حديث المسيء صلاته ، دال على أنه لم يقف على هذه الطرق الصحيحة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم اسجد ) في رواية إسحاق بن أبي طلحة " ثم يكبر فيسجد حتى يمكن وجهه أو جبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم ارفع ) في رواية إسحاق المذكورة " ثم يكبر فيركع حتى يستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه " . وفي رواية محمد بن عمرو فإذا رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى . وفي رواية إسحاق فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن جالسا ثم افترش فخذك اليسرى ثم تشهد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ) في رواية محمد بن عمرو ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : وقع في رواية ابن نمير في الاستئذان بعد ذكر السجود الثاني ثم ارفع حتى تطمئن جالسا . وقد قال بعضهم : هذا يدل على إيجاب جلسة الاستراحة ولم يقل به أحد ، وأشار البخاري إلى أن هذه اللفظة وهم ، فإنه عقبه بأن قال " قال أبو أسامة في الأخير حتى تستوي قائما " ويمكن أن يحمل إن كان محفوظا على الجلوس للتشهد ، ويقويه رواية إسحاق المذكورة قريبا ، وكلام البخاري ظاهر في أن أبا أسامة خالف ابن نمير ، لكن رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة كما قال ابن نمير بلفظ : ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدا ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدا ، ثم افعل ذلك في كل ركعة . وأخرجه البيهقي من طريقه وقال : كذا قال إسحاق بن راهويه عن أبي أسامة ، والصحيح رواية عبيد الله بن سعيد بن أبي قدامة ويوسف بن موسى عن أبي أسامة بلفظ ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تستوي قائما ثم ساقه من طريق يوسف بن موسى كذلك .

                                                                                                                                                                                                        واستدل بهذا الحديث على وجوب الطمأنينة في أركان الصلاة ، وبه قال الجمهور ، واشتهر عن الحنفية أن الطمأنينة سنة ، وصرح بذلك كثير من مصنفيهم ، لكن كلام الطحاوي كالصريح في الوجوب عندهم ، فإنه ترجم مقدار الركوع والسجود ، ثم ذكر الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره في قوله " سبحان ربي العظيم ثلاثا في الركوع وذلك أدناه " . قال : فذهب قوم إلى أن هذا مقدار الركوع والسجود لا يجزئ أدنى منه ، قال : وخالفهم آخرون فقالوا : إذا استوى راكعا واطمأن ساجدا أجزأ ، ثم قال : وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن دقيق العيد : تكرر من الفقهاء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذكر فيه وعلى عدم وجوب ما لم يذكر ، أما الوجوب فلتعلق الأمر به ، وأما عدمه فليس لمجرد كون الأصل عدم الوجوب ، بل لكون الموضع موضع تعليم وبيان للجاهل ، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر ويتقوى ذلك بكونه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ما تعلقت به الإساءة من هذا المصلي وما لم تتعلق به ، فدل على أنه لم يقصر المقصود على ما وقعت به الإساءة . قال : فكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه وكان مذكورا في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في وجوبه ، وبالعكس . لكن يحتاج أولا إلى جمع طرق هذا الحديث وإحصاء الأمور المذكورة فيه والأخذ بالزائد فالزائد ، ثم إن عارض الوجوب أو عدمه دليل أقوى منه [ ص: 327 ] عمل به ، وإن جاءت صيغة الأمر في حديث آخر بشيء لم يذكر في هذا الحديث قدمت . قلت : قد امتثلت ما أشار إليه وجمعت طرقه القوية من رواية أبي هريرة ورفاعة ، وقد أمليت الزيادات التي اشتملت عليها . فمما لم يذكر فيه تصريحا من الواجبات المتفق عليها : النية ، والقعود الأخير ومن المختلف فيه التشهد الأخير والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، والسلام في آخر الصلاة . قال النووي : وهو محمول على أن ذلك كان معلوما عند الرجل اهـ .

                                                                                                                                                                                                        وهذا يحتاج إلى تكملة ، وهو ثبوت الدليل على إيجاب ما ذكر كما تقدم ، وفيه بعد ذلك نظر . قال : وفيه دليل على أن الإقامة والتعوذ ودعاء الافتتاح ورفع اليدين في الإحرام وغيره ووضع اليمنى على اليسرى وتكبيرات الانتقالات وتسبيحات الركوع والسجود وهيئات الجلوس ووضع اليد على الفخذ ونحو ذلك مما لم يذكر في الحديث ليس بواجب اهـ . وهو في معرض المنع لثبوت بعض ما ذكر في بعض الطرق كما تقدم بيانه ، فيحتاج من لم يقل بوجوبه إلى دليل على عدم وجوبه كما تقدم تقريره . واستدل به على تعين لفظ التكبير ، خلافا لمن قال يجزئ بكل لفظ يدل على التعظيم ، وقد تقدمت هذه المسألة في أول صفة الصلاة . قال ابن دقيق العيد : ويتأيد ذلك بأن العبادات محل التعبدات ، ولأن رتب هذه الأذكار مختلفة ، فقد لا يتأدى برتبة منها ما يقصد برتبة أخرى . ونظيره الركوع ، فإن المقصود به التعظيم بالخضوع ، فلو أبدله بالسجود لم يجزئ ، مع أنه غاية الخضوع .

                                                                                                                                                                                                        واستدل به على أن قراءة الفاتحة لا تتعين ، قال ابن دقيق العيد : ووجهه أنه إذا تيسر فيه غير الفاتحة فقرأه يكون ممتثلا فيخرج عن العهدة ، قال : والذين عينوها أجابوا بأن الدليل على تعينها تقييد للمطلق في هذا الحديث ، وهو متعقب ، لأنه ليس بمطلق من كل وجه بل هو مقيد بقيد التيسير الذي يقتضي التخيير ، وإنما يكون مطلقا لو قال : اقرأ قرآنا ، ثم قال : اقرأ فاتحة الكتاب . وقال بعضهم : هو بيان للمجمل ، وهو متعقب أيضا ، لأن المجمل ما لم تتضح دلالته ، وقوله " ما تيسر " متضح لأنه ظاهر في التخيير ، قال : وإنما يقرب ذلك إن جعلت " ما " موصولة ، وأريد بها شيء معين وهو الفاتحة لكثرة حفظ المسلمين لها ، فهي المتيسرة . وقيل هو محمول على أنه عرف من حال الرجل أنه لا يحفظ الفاتحة ومن كان كذلك كان الواجب عليه قراءة ما تيسر . وقيل : محمول على أنه منسوخ بالدليل على تعيين الفاتحة ، ولا يخفى ضعفهما . لكنه محتمل ، ومع الاحتمال لا يترك الصريح وهو قوله لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وقيل : إن قوله " ما تيسر " محمول على ما زاد على الفاتحة جمعا بينه وبين دليل إيجاب الفاتحة . ويؤيده الرواية التي تقدمت لأحمد وابن حبان حيث قال فيها اقرأ بأم القرآن ، ثم اقرأ بما شئت واستدل به على وجوب الطمأنينة في الأركان . واعتذر بعض من لم يقل به بأنه زيادة على النص ، لأن المأمور به في القرآن مطلق السجود فيصدق بغير طمأنينة ، فالطمأنينة زيادة والزيادة على المتواتر بالآحاد لا تعتبر .

                                                                                                                                                                                                        وعورض بأنها ليست زيادة لكن بيان للمراد بالسجود ، وأنه خالف السجود اللغوي لأنه مجرد وضع الجبهة فبينت السنة أن السجود الشرعي ما كان بالطمأنينة . ويؤيده أن الآية نزلت تأكيدا لوجوب السجود ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه يصلون قبل ذلك ، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بغير طمأنينة . وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم : وجوب الإعادة على من أخل بشيء من واجبات الصلاة . وفيه أن الشروع في النافلة ملزم ، لكن يحتمل أن تكون تلك الصلاة كانت فريضة فيقف الاستدلال . وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحسن التعليم بغير تعنيف ، [ ص: 328 ] وإيضاح المسألة ، وتخليص المقاصد ، وطلب المتعلم من العالم أن يعلمه . وفيه تكرار السلام ورده وإن لم يخرج من الموضع إذا وقعت صورة انفصال . وفيه أن القيام في الصلاة ليس مقصودا لذاته ، وإنما يقصد للقراءة فيه . وفيه جلوس الإمام في المسجد وجلوس أصحابه معه . وفيه التسليم للعالم والانقياد له والاعتراف بالتقصير والتصريح بحكم البشرية في جواز الخطأ وفيه أن فرائض الوضوء مقصورة على ما ورد به القرآن لا ما زادته السنة فيندب . وفيه حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - ولطف معاشرته ، وفيه تأخير البيان في المجلس للمصلحة . وقد استشكل تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - له على صلاته وهي فاسدة على القول بأنه أخل ببعض الواجبات ، وأجاب المازري بأنه أراد استدراجه بفعل ما يجهله مرات لاحتمال أن يكون فعله ناسيا أو غافلا فيتذكره فيفعله من غير تعليم ، وليس ذلك من باب التقرير الخطأ ، بل من باب تحقق الخطأ . وقال النووي نحوه ، قال : وإنما لم يعلمه أولا ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة المجزئة . وقال ابن الجوزي : يحتمل أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه عليه ، ورأى أن الوقت لم يفته ، فرأى إيقاظ الفطنة للمتروك .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن دقيق العيد : ليس التقرير بدليل على الجواز مطلقا ، بل لا بد من انتفاء الموانع . ولا شك أن في زيادة قبول المتعلم لما يلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم ، لا سيما مع عدم خوف الفوات ، إما بناء على ظاهر الحال ، أو بوحي خاص . وقال التوربشتي : إنما سكت عن تعليمه أولا لأنه لما رجع لم يستكشف الحال من مورد الوحي ، وكأنه اغتر بما عنده من العلم فسكت عن تعليمه زجرا له وتأديبا وإرشادا إلى استكشاف ما استبهم عليه ، فلما طلب كشف الحال من مورده أرشد إليه . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        لكن فيه مناقشة ، لأنه إن تم له في الصلاة الثانية والثالثة لم يتم له في الأولى ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - بدأه لما جاء أول مرة بقوله ارجع فصل فإنك لم تصل فالسؤال وارد على تقريره له على الصلاة الأولى كيف لم ينكر عليه في أثنائها ؟ لكن الجواب يصلح بيانا للحكمة في تأخير البيان بعد ذلك ، والله أعلم . وفيه حجة على من أجاز القراءة بالفارسية لكون ما ليس بلسان العرب لا يسمى قرآنا ، قاله عياض . وقال النووي : وفيه وجوب القراءة في الركعات كلها ، وأن المفتي إذا سئل عن شيء وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السائل يستحب له أن يذكره له وإن لم يسأله عنه ويكون من باب النصيحة لا من الكلام فيما لا معنى له . وموضع الدلالة منه كونه قال " علمني " أي الصلاة فعلمه الصلاة ومقدماتها .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية