الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1509 حدثنا بيان بن عمرو حدثنا يزيد حدثنا جرير بن حازم حدثنا يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم فذلك الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه قال يزيد وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل قال جرير فقلت له أين موضعه قال أريكه الآن فدخلت معه الحجر فأشار إلى مكان فقال ها هنا قال جرير فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : في الطريق الرابعة : ( حدثنا يزيد ) هو ابن هارون كما جزم به أبو نعيم في " المستخرج " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عروة ) كذا رواه الحفاظ من أصحاب يزيد بن هارون عنه ، فأخرجه أحمد بن حنبل ، وأحمد بن سنان ، وأحمد بن منيع في مسانيدهم عنه هكذا ، والنسائي عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام ، والإسماعيلي من طريق هارون الجمال ، والزعفراني كلهم عن يزيد بن هارون ، وخالفهم الحارث بن أبي أسامة ، فرواه عن يزيد بن هارون ، فقال : " عن عبد الله بن الزبير " . بدل عروة بن الزبير ، وهكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي الأزهر ، عن وهب بن جرير بن حازم ، عن أبيه ، قال الإسماعيلي : إن كان أبو الأزهر ضبطه ، فكأن يزيد بن رومان سمعه من الأخوين . قلت : قد تابعه محمد بن مشكان ، كما أخرجه الجوزقي ، عن الدغولي عنه ، عن وهب بن جرير ، ويزيد قد حمله عن الأخوين ، لكن رواية الجماعة أوضح ، فهي أصح .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حديث عهد ) كذا لجميع الرواة بالإضافة ، وقال المطرزي : لا يجوز حذف الواو في مثل هذا ، والصواب : " حديثو عهد " . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه ) زاد وهب بن جرير في روايته : " وبنائه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال يزيد ) هو ابن رومان بالإسناد المذكور .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه - إلى قوله - كأسنمة الإبل ) هكذا ذكره يزيد بن رومان مختصرا ، وقد ذكره مسلم وغيره واضحا ، فروى مسلم من طريق عطاء بن أبي رباح ، قال : " لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام ، فكان من أمره ما كان " . وللفاكهي في " كتاب مكة " من طريق أبي أويس ، عن يزيد بن رومان وغيره " قالوا : لما أحرق أهل الشام الكعبة ورموها بالمنجنيق وهت الكعبة " ولابن سعد في الطبقات من طريق أبي الحارث بن زمعة ، قال : ارتحل الحصين بن نمير - يعني الأمير [ ص: 521 ] الذي كان يقاتل ابن الزبير من قبل يزيد بن معاوية - لما أتاهم موت يزيد بن معاوية في ربيع الآخر سنة أربع وستين ، قال : فأمر ابن الزبير بالخصاص التي كانت حول الكعبة فهدمت ، فإذا الكعبة تنفض - أي تتحرك - متوهنة ترتج من أعلاها إلى أسفلها فيها أمثال جيوب النساء من حجارة المنجنيق . وللفاكهي من طريق عثمان بن ساج : " بلغني أنه لما قدم جيش الحصين بن نمير ، أحرق بعض أهل الشام على باب بني جمح ، وفي المسجد يومئذ خيام ، فمشى الحريق حتى أخذ في البيت ، فظن الفريقان أنهم هالكون ، وضعف بناء البيت ، حتى إن الطير ليقع عليه فتتناثر حجارته " . ولعبد الرزاق عن أبيه ، عن مرثد بن شرحبيل أنه حضر ذلك ، قال : كانت الكعبة قد وهت من حريق أهل الشام ، قال : فهدمها ابن الزبير ، فتركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم على أهل الشام ، فلما صدر الناس قال : أشيروا علي في الكعبة . الحديث ، ولابن سعد من طريق ابن أبي مليكة قال : " لم يبن ابن الزبير الكعبة حتى حج الناس سنة أربع وستين ، ثم بناها حين استقبل سنة خمس وستين " . وحكي عن الواقدي أنه رد ذلك وقال : الأثبت عندي أنه ابتدأ بناءها بعد رحيل الجيش بسبعين يوما ، وجزم الأزرقي بأن ذلك كان في نصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين . قلت : ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ابتداء البناء في ذلك الوقت ، وامتد أمده إلى الموسم ليراه أهل الآفاق ، ليشنع بذلك على بني أمية . ويؤيده أن في تاريخ المسبحي أن الفراغ من بناء الكعبة كان في سنة خمس وستين ، وزاد المحب الطبري أنه كان في شهر رجب ، والله أعلم . وإن لم يكن هذا الجمع مقبولا فالذي في الصحيح مقدم على غيره . وذكر مسلم في رواية عطاء إشارة ابن عباس عليه بأن لا يفعل ، وقول ابن الزبير : لو أن أحدكم احترق بيته بناه حتى يجدده ، وأنه استخار الله ثلاثا ثم عزم على أن ينقضها ، قال : فتحاماه الناس حتى صعد رجل فألقى منه حجارة ، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض ، وجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه ، وقال ابن عيينة في جامعه عن داود بن سابور ، عن مجاهد قال : خرجنا إلى منى فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب ، وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه فهدم . وفي رواية أبي أويس المذكورة : ثم عزل ما كان يصلح أن يعاد في البيت فبنوا به ، فنظروا إلى ما كان لا يصلح منها أن يبني به فأمر به أن يحفر له في جوف الكعبة فيدفن ، واتبعوا قواعد إبراهيم من نحو الحجر فلم يصيبوا شيئا حتى شق على ابن الزبير ، ثم أدركوها بعدما أمعنوا ، فنزل عبد الله بن الزبير فكشفوا له عن قواعد إبراهيم وهي صخر أمثال الخلف من الإبل ، فانفضوا له ، أي حركوا تلك القواعد بالعتل فنفضت قواعد البيت ، ورأوه بنيانا مربوطا بعضه ببعض ، فحمد الله وكبره ، ثم أحضر الناس فأمر بوجوههم وأشرافهم فنزلوا حتى شاهدوا ما شاهدوه ، ورأوا بنيانا متصلا ، فأشهدهم على ذلك . وفي رواية عطاء : وكان طول الكعبة ثمان عشرة ذراعا ، فزاد ابن الزبير في طولها عشرة أذرع . وقد تقدم من وجه آخر أنه كان طولها عشرين ذراعا ، فلعل راويه جبر الكسر ، وجزم الأزرقي بأن الزيادة تسعة أذرع ، فلعل عطاء جبر الكسر أيضا . وروى عبد الرزاق من طريق ابن سابط ، عن زيد : " أنهم كشفوا عن القواعد فإذا الحجر مثل الخلفة ، والحجارة مشبكة بعضها ببعض " . وللفاكهي من وجه آخر عن عطاء قال : " كنت في الأمناء الذين جمعوا على حفره ، فحفروا قامة ونصفا ، فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزرد عرق المروة ، فضربوه ، فارتجت قواعد البيت فكبر الناس ، فبنى عليه " . وفي رواية مرثد عند عبد [ ص: 522 ] الرزاق : " فكشف عن ربض في الحجر آخذ بعضه ببعض ، فتركه مكشوفا ثمانية أيام ليشهدوا عليه ، فرأيت ذلك الربض مثل خلف الإبل : وجه حجر ووجه حجران ، ورأيت الرجل يأخذ العتلة فيضرب بها من ناحية الركن فيهتز الركن الآخر " . قال مسلم في رواية عطاء : " وجعل له بابين : أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه " . وفي رواية الأسود التي في العلم : " ففعله عبد الله بن الزبير " . وفي رواية إسماعيل بن جعفر عند الإسماعيلي : " فنقضه عبد الله بن الزبير ، فجعل له بابين في الأرض " . ونحوه للترمذي من طريق شعبة ، عن أبي إسحاق ، وللفاكهي من طريق أبي أويس ، عن موسى بن ميسرة : أنه دخل الكعبة بعدما بناها ابن الزبير ، فكان الناس لا يزدحمون فيها ، يدخلون من باب ويخرجون من آخر .

                                                                                                                                                                                                        ( فصل ) لم يذكر المصنف رحمه الله قصة تغيير الحجاج لما صنعه ابن الزبير ، وقد ذكرها مسلم في رواية عطاء ، قال : فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير قد وضعه على أس نظر العدول من أهل مكة إليه ، فكتب إليه عبد الملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاد في طوله فأقره ، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه ، وسد بابه الذي فتحه . فنقضه ، وأعاده إلى بنائه . وللفاكهي من طريق أبي أويس ، عن هشام بن عروة : " فبادر - يعني الحجاج - فهدمها وبنى شقها الذي يلي الحجر ، ورفع بابها ، وسد الباب الغربي . قال أبو أويس : فأخبرني غير واحد من أهل العلم أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج في هدمها ، ولعن الحجاج " . ولابن عيينة ، عن داود بن سابور ، عن مجاهد : " فرد الذي كان ابن الزبير أدخل فيها من الحجر ، قال : فقال عبد الملك : وددنا أنا تركنا أبا خبيب وما تولى من ذلك " . وقد أخرج قصة ندم عبد الملك عن ذلك مسلم من وجه آخر ، فعنده من طريق الوليد بن عطاء " أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وفد على عبد الملك في خلافته ، فقال : ما أظن أبا خبيب - يعني ابن الزبير - سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها ، فقال الحارث : بلى أنا سمعته منها " . زاد عبد الرزاق ، عن ابن جريج فيه : " وكان الحارث مصدقا لا يكذب . فقال عبد الملك : أنت سمعتها تقول ذلك ؟ قال : نعم ، فنكت ساعة بعصاه وقال : وددت أني تركته وما تحمل " . وأخرجها أيضا من طريق أبي قزعة قال : بينما عبد الملك يطوف بالبيت إذ قال : قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين - فذكر الحديث - فقال له الحارث : لا تقل هذا يا أمير المؤمنين ، فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث بهذا ، فقال : لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على بناء ابن الزبير .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : جميع الروايات التي جمعتها هذه القصة متفقة على أن ابن الزبير جعل الباب بالأرض ، ومقتضاه أن يكون الباب الذي زاده على سمته ، وقد ذكر الأزرقي أن جملة ما غيره الحجاج الجدار الذي من جهة الحجر والباب المسدود الذي في الجانب الغربي عن يمين الركن اليماني وما تحت عتبة الباب الأصلي ، وهو أربعة أذرع وشبر ، وهذا موافق لما في الروايات المذكورة ، لكن المشاهد الآن في ظهر الكعبة باب مسدود يقابل الباب الأصلي ، وهو في الارتفاع مثله ، ومقتضاه أن يكون الباب الذي كان على عهد ابن الزبير لم يكن لاصقا بالأرض ، فيحتمل أن يكون لاصقا كما صرحت به الروايات لكن الحجاج لما غيره رفعه ، ورفع الباب الذي يقابله أيضا ، ثم بدا له فسد الباب المجدد ، لكن لم أر النقل بذلك صريحا . وذكر الفاكهي [ ص: 523 ] في " أخبار مكة " أنه شاهد هذا الباب المسدود من داخل الكعبة في سنة ثلاث وستين ومائتين ، فإذا هو مقابل باب الكعبة وهو بقدره في الطول والعرض ، وإذا في أعلاه كلاليب ثلاثة كما في الباب الموجود سواء ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فحزرت ) بتقديم الزاي على الراء ؛ أي قدرت .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ستة أذرع ، أو نحوها ) قد ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الطريق الثانية ، وأنها أرجح الروايات ، وأن الجمع بين المختلف منها ممكن كما تقدم ، وهو أولى من دعوى الاضطراب والطعن في الروايات المقيدة لأجل الاضطراب كما جنح إليه ابن الصلاح ، وتبعه النووي ، لأن شرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه بحيث يتعذر الترجيح أو الجمع ، ولم يتعذر ذلك هنا ، فيتعين حمل المطلق على المقيد كما هي قاعدة مذهبهما ، ويؤيده أن الأحاديث المطلقة والمقيدة متواردة على سبب واحد ، وهو أن قريشا قصروا عن بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأن ابن الزبير أعاده على بناء إبراهيم ، وأن الحجاج أعاده على بناء قريش ، ولم تأت رواية قط صريحة أن جميع الحجر من بناء إبراهيم في البيت ، قال المحب الطبري في " شرح التنبيه " له : والأصح أن القدر الذي في الحجر من البيت قدر سبعة أذرع ، والرواية التي جاء فيها أن الحجر من البيت مطلقة فيحمل المطلق على المقيد ، فإن إطلاق اسم الكل على البعض سائغ مجازا ، وإنما قال النووي ذلك نصرة لما رجحه من أن جميع الحجر من البيت ، وعمدته في ذلك أن الشافعي نص على إيجاب الطواف خارج الحجر ، ونقل ابن عبد البر الاتفاق عليه ، ونقل غيره أنه لا يعرف في الأحاديث المرفوعة ولا عن أحد من الصحابة ومن بعدهم أنه طاف من داخل الحجر وكان عملا مستمرا ، ومقتضاه أن يكون جميع الحجر من البيت ، وهذا متعقب ، فإنه لا يلزم من إيجاب الطواف من ورائه أن يكون كله من البيت ، فقد نص الشافعي أيضا كما ذكره البيهقي في " المعرفة " أن الذي في الحجر من البيت نحو من ستة أذرع ، ونقله عن عدة من أهل العلم من قريش لقيهم كما تقدم ، فعلى هذا فلعله رأى إيجاب الطواف من وراء الحجر احتياطا ، وأما العمل فلا حجة فيه على الإيجاب ، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده فعلوه استحبابا للراحة من تسور الحجر لا سيما والرجال والنساء يطوفون جميعا ، فلا يؤمن من المرأة التكشف ، فلعلهم أرادوا حسم هذه المادة ، وأما ما نقله المهلب ، عن ابن أبي زيد أن حائط الحجر لم يكن مبنيا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى كان عمر فبناه ووسعه قطعا للشك ، وأن الطواف قبل ذلك كان حول البيت ، ففيه نظر . وقد أشار المهلب إلى أن عمدته في ذلك ما سيأتي في " باب بنيان الكعبة " في أوائل السيرة النبوية بلفظ : " لم يكن حول البيت حائط ، كانوا يصلون حول البيت حتى كان عمر فبنى حوله حائطا جدره قصيرة ، فبناه ابن الزبير " . انتهى . وهذا إنما هو في حائط المسجد لا في الحجر ، فدخل الوهم على قائله من هنا . ولم يزل الحجر موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح به كثير من الأحاديث الصحيحة ، نعم في الحكم بفساد طواف من دخل الحجر وخلى بينه وبين البيت سبعة أذرع نظر ، وقد قال بصحته جماعة من الشافعية كإمام الحرمين ومن المالكية ، كأبي الحسن اللخمي ، وذكر الأزرقي أن عرض ما بين الميزاب ومنتهى الحجر سبعة عشر ذراعا وثلث ذراع ، منها عرض جدار [ ص: 524 ] الحجر ذراعان وثلث ، وفي بطن الحجر خمسة عشر ذراعا ، فعلى هذا فنصف الحجر ليس من البيت فلا يفسد طواف من طاف دونه ، والله أعلم . وأما قول المهلب : إن الفضاء لا يسمى بيتا ، وإنما البيت البنيان ، لأن شخصا لو حلف لا يدخل بيتا فانهدم ذلك البيت فلا يحنث بدخوله فليس بواضح ، فإن المشروع من الطواف ما شرع للخليل بالاتفاق ، فعلينا أن نطوف حيث طاف ولا يسقط ذلك بانهدام حرم البيت ، لأن العبادات لا يسقط المقدور عليه منها بفوات المعجوز عنه ، فحرمة البقعة ثابتة ولو فقد الجدار ، وأما اليمين فمتعلقة بالعرف ، ويؤيده ما قلناه أنه لو انهدم مسجد فنقلت حجارته إلى موضع آخر بقيت حرمة المسجد بالبقعة التي كان بها ولا حرمة لتلك الحجارة المنقولة إلى غير مسجد ، فدل على أن البقعة أصل للجدار بخلاف العكس ، أشار إلى ذلك ابن المنير في الحاشية .

                                                                                                                                                                                                        وفي حديث بناء الكعبة من الفوائد - غير ما تقدم - ما ترجم عليه المصنف في العلم وهو : " ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس " والمراد بالاختيار في عبارته المستحب ، وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره ، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا ، وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب . وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة ، وأنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة ، وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة ، وحديث الرجل مع أهله في الأمور العامة ، وحرص الصحابة على امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                        ( تكميل ) : حكى ابن عبد البر ، وتبعه عياض وغيره عن الرشيد أو المهدي أو المنصور أنه أراد أن يعيد الكعبة على ما فعله ابن الزبير ، فناشده مالك في ذلك ، وقال : أخشى أن يصير ملعبة للملوك ، فتركه . قلت : وهذا بعينه خشية جدهم الأعلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، فأشار على ابن الزبير لما أراد أن يهدم الكعبة ويجدد بناءها بأن يرم ما وهى منها ، ولا يتعرض لها بزيادة ولا نقص ، وقال له : " لا آمن أن يجيء من بعدك أمير فيغير الذي صنعت " . أخرجه الفاكهي من طريق عطاء عنه ، وذكر الأزرقي أن سليمان بن عبد الملك هم بنقض ما فعله الحجاج ، ثم ترك ذلك لما ظهر له أنه فعله بأمر أبيه عبد الملك ، ولم أقف في شيء من التواريخ على أن أحدا من الخلفاء ولا من دونهم غير من الكعبة شيئا مما صنعه الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب وعتبته ، وكذا وقع الترميم في جدارها غير مرة ، وفي سقفها وفي سلم سطحها ، وجدد فيها الرخام ، فذكر الأزرقي ، عن ابن جريج : " أن أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك " . ووقع في جدارها الشامي ترميم في شهور سنة سبعين ومائتين ، ثم في شهور سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ، ثم في شهور سنة تسع عشرة وستمائة ، ثم في سنة ثمانين وستمائة ، ثم في سنة أربع عشرة وثمانمائة ، وقد ترادفت الأخبار الآن في وقتنا هذا في سنة اثنتين وعشرين أن جهة الميزاب فيها ما يحتاج إلى ترميم ، فاهتم بذلك سلطان الإسلام الملك المؤيد وأرجو من الله تعالى أن يسهل له ذلك ، ثم حججت سنة أربع وعشرين وتأملت المكان الذي قيل عنه فلم أجده في تلك البشاعة ، وقد رمم ما تشعث من الحرم في أثناء سنة خمس وعشرين إلى أن نقض سقفها في سنة سبع وعشرين على يدي بعض الجند ، فجدد لها سقفا ، ورخم السطح ، فلما كان في سنة ثلاث وأربعين صار المطر إذا نزل ينزل إلى داخل الكعبة أشد مما كان أولا ، فأداه رأيه الفاسد إلى نقض السقف مرة أخرى وسد ما كان في السطح من الطاقات التي كان يدخل : منها الضوء إلى الكعبة ، ولزم من ذلك امتهان الكعبة ، بل صار العمال يصعدون فيها بغير أدب ، فغار بعض المجاورين فكتب إلى القاهرة [ ص: 525 ] يشكو ذلك . فبلغ السلطان الظاهر ، فأنكر أن يكون أمر بذلك ، وجهز بعض الجند لكشف ذلك فتعصب للأول بعض من جاور واجتمع الباقون رغبة ورهبة ، فكتبوا محضرا بأنه ما فعل شيئا إلا عن ملأ منهم ، وأن كل ما فعله مصلحة ، فسكن غضب السلطان وغطى عنه الأمر . وقد جاء عن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، وهو بالتحتانية قبل الألف ، وبعدها معجمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن هذه الأمة لا تزال بخير ما عظموا هذه الحرمة - يعني الكعبة - حق تعظيمها ، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا . أخرجه أحمد وابن ماجه وعمر بن شبة في " كتاب مكة " وسنده حسن ، فنسأل الله تعالى الأمن من الفتن بحلمه وكرمه ، ومما يتعجب منه أنه لم يتفق الاحتياج في الكعبة إلى الإصلاح إلا فيما صنعه الحجاج إما من الجدار الذي بناه في الجهة الشامية ، وإما في السلم الذي جدده للسطح والعتبة ، وما عدا ذلك مما وقع فإنما هو لزيادة محضة كالرخام أو لتحسين كالباب والميزاب ، وكذا ما حكاه الفاكهي ، عن الحسن بن مكرم عن عبد الله بن بكر السهمي عن أبيه قال : " جاورت بمكة فعابت - أي بالعين المهملة وبالباء الموحدة - أسطوانة من أساطين البيت فأخرجت وجيء بأخرى ليدخلوها مكانها فطالت عن الموضع ، وأدركهم الليل والكعبة لا تفتح ليلا فتركوها ليعودوا من غد ليصلحوها فجاءوا من غد فأصابوها أقدم من قدح " . أي بكسر القاف ، وهو السهم ، وهذا إسناد قوي رجاله ثقات ، وبكر هو ابن حبيب من كبار أتباع التابعين ، وكأن القصة كانت في أوائل دولة بني العباس ، وكانت الأسطوانة من خشب . والله سبحانه وتعالى أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية