الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب شرب الأعلى إلى الكعبين

                                                                                                                                                                                                        2233 حدثنا محمد هو ابن سلام أخبرنا مخلد بن يزيد الحراني قال أخبرني ابن جريج قال حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير أنه حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج من الحرة يسقي بها النخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسق يا زبير فأمره بالمعروف ثم أرسل إلى جارك فقال الأنصاري أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال اسق ثم احبس يرجع الماء إلى الجدر واستوعى له حقه فقال الزبير والله إن هذه الآية أنزلت في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم قال لي ابن شهاب فقدرت الأنصار والناس قول النبي صلى الله عليه وسلم اسق ثم احبس حتى يرجع إلى الجدر وكان ذلك إلى الكعبين [ ص: 48 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 48 ] قوله : ( باب شرب الأعلى إلى الكعبين ) يشير إلى ما حكاه الزهري من تقدير ذلك كما سيأتي في آخر الباب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا محمد ) زاد في رواية أبي الوقت " هو ابن سلام " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأمره بالمعروف ) كذا ضبطناه في جميع الروايات على أنه فعل ماض من الأمر ، وهي جملة معترضة من كلام الراوي ، وحكى الكرماني أنه بلفظ فعل الأمر من الإمرار وقد تقدم ما فيه ، وقد قال الخطابي : معناه أمره بالعادة المعروفة التي جرت بينهم في مقدار الشرب ا هـ .

                                                                                                                                                                                                        ويحتمل أن يكون المراد أمره بالقصد والأمر الوسط مراعاة للجوار ، ويدل عليه رواية شعيب المذكورة ، ومثلها لمعمر في التفسير ، وهو ظاهر في أنه أمره أولا أن يسامح ببعض حقه على سبيل الصلح ، وبهذا ترجم البخاري في الصلح إذا أشار الإمام بالمصلحة ، فلما لم يرض الأنصاري بذلك استقصى الحكم وحكم به .

                                                                                                                                                                                                        وحكى الخطابي أن فيه دليلا على جواز فسخ الحاكم حكمه ، قال : لأنه كان له في الأصل أن يحكم بأي الأمرين شاء فقدم الأسهل إيثارا لحسن الجوار ، فلما جهل الخصم موضع حقه رجع عن حكمه الأول وحكم بالثاني ليكون ذلك أبلغ في زجره ، وتعقب بأنه لم يثبت الحكم أولا كما تقدم بيانه ، قال : وقيل بل الحكم كان ما أمر به أولا ، فلما لم يقبل الخصم ذلك عاقبه بما حكم عليه به ثانيا على ما بدر منه وكان ذلك لما كانت العقوبة بالأموال ا هـ .

                                                                                                                                                                                                        وقد وافق ابن الصباغ من الشافعية على هذا الأخير ، وفيه نظر ، وسياق طرق الحديث يأبى ذلك كما ترى ، لا سيما قوله : " واستوعى للزبير حقه في تصريح الحكم " وهي رواية شعيب في الصلح ومعمر في التفسير ، فمجموع الطرق دال على أنه أمر الزبير أولا أن يترك بعض حقه ، وثانيا أن يستوفي جميع حقه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال لي ابن شهاب ) القائل هو ابن جريج راوي الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقدرت الأنصار والناس ) هو من عطف العام على الخاص .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 49 ] قوله : ( وكان ذلك إلى الكعبين ) يعني أنهم لما رأوا أن الجدر يختلف بالطول والقصر قاسوا ما وقعت فيه القصة فوجدوه يبلغ الكعبين فجعلوا ذلك معيارا لاستحقاق الأول فالأول ، والمراد بالأول هنا من يكون مبدأ الماء من ناحيته . وقال بعض المتأخرين من الشافعية : المراد به من لم يتقدمه أحد في الغراس بطريق الإحياء ، والذي يليه من أحيا بعده ، وهلم جرا .

                                                                                                                                                                                                        قال : وظاهر الخبر أن الأول من يكون أقرب إلى مجرى الماء وليس هو المراد . وقال ابن التين : الجمهور على أن الحكم أن يمسك إلى الكعبين ، وخصه ابن كنانة بالنخل والشجر ، قال : وأما الزروع فإلى الشراك . وقال الطبري : الأراضي مختلفة ، فيمسك لكل أرض ما يكفيها ، لأن الذي في قصة الزبير واقعة عين . واختلف أصحاب مالك : هل يرسل الأول بعد استيفائه جميع الماء ، أو يرسل منه ما زاد على الكعبين ؟ والأول أظهر ، ومحله إذا لم يبق له به حاجة والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وقد وقع في مرسل عبد الله بن أبي بكر في " الموطأ " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في مسيل مهزور ومذينب أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ، ثم يرسل الأعلى على الأسفل . ومهزور بفتح أوله وسكون الهاء وضم الزاي وسكون الواو بعدها راء ، ومذينب بذال معجمة ونون بالتصغير : واديان معروفان بالمدينة وله إسناد موصول في " غرائب مالك للدارقطني " من حديث عائشة وصححه الحاكم ، وأخرجه أبو داود وابن ماجه والطبري من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وإسناد كل منهما حسن ، وأخرج عبد الرزاق هذا الحديث المرسل بإسناد آخر موصول ، ثم روى عن معمر عن الزهري قال : نظرنا في قوله : " احبس الماء حتى يبلغ الجدر " فكان ذلك إلى الكعبين ا هـ .

                                                                                                                                                                                                        وقد روى البيهقي من رواية ابن المبارك عن معمر قال : سمعت غير الزهري يقول : نظروا في قوله : " حتى يرجع إلى الجدر " فكان ذلك إلى الكعبين . وكأن معمرا سمع ذلك من ابن جريج فأرسله في رواية عبد الرزاق ، وقد بين ابن جريج أنه سمعه من الزهري . ووقع في رواية عبد الرحمن بن إسحاق " احبس الماء إلى الجدر أو إلى الكعبين " وهو شك منه ، والصواب ما رواه ابن جريج . وذكر الشاشي من الشافعية أن معنى قوله : " إلى الجدر " أي إلى الكعبين ، وكأنه أشار إلى هذا التقدير ، وإلا فليس الجدر مرادفا للكعب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الجدر هو الأصل ) كذا هـنا في رواية المستملي وحده . وفي هذا الحديث غير ما تقدم أن من سبق إلى شيء من مياه الأودية والسيول التي لا تملك فهو أحق به ، لكن ليس له إذا استغنى أن يحبس الماء عن الذي يليه . وفيه أن للحاكم أن يشير بالصلح بين الخصمين ويأمر به ويرشد إليه ، ولا يلزمه به إلا إذا رضي . وأن الحاكم يستوفي لصاحب الحق حقه إذا لم يتراضيا ، وأن يحكم بالحق لمن توجه له ولو لم يسأله صاحب الحق . وفيه الاكتفاء من المخاصم بما يفهم عنه مقصوده من غير مبالغة في التنصيص على الدعوى ولا تحديد المدعي ولا حصره بجميع صفاته .

                                                                                                                                                                                                        وفيه توبيخ من جفى على الحاكم ومعاقبته ، ويمكن أن يستدل به على أن للإمام أن يعفو عن التعزير المتعلق به ، لكن محل ذلك ما لم يؤد إلى هتك حرمة الشرع . وإنما لم يعاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب القصة لما كان عليه من تأليف الناس ، كما قال في حق كثير من المنافقين لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه قال القرطبي : فلو صدر مثل هذا من أحد في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في حق شريعته لقتل قتلة زنديق . ونقلالنووي نحوه عن العلماء . والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية