الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الصلاة باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء وقال ابن عباس حدثني أبو سفيان في حديث هرقل فقال يأمرنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والصدق والعفاف

                                                                                                                                                                                                        342 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء افتح قال من هذا قال هذا جبريل قال هل معك أحد قال نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم فقال أرسل إليه قال نعم فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل يساره بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت لجبريل من هذا قال هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى حتى عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها افتح فقال له خازنها مثل ما قال الأول ففتح قال أنس فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة قال أنس فلما مر جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس قال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح فقلت من هذا قال هذا إدريس ثم مررت بموسى فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا قال هذا موسى ثم مررت بعيسى فقال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح قلت من هذا قال هذا عيسى ثم مررت بإبراهيم فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت من هذا قال هذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام قال ابن حزم وأنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم ففرض الله عز وجل على أمتي خمسين صلاة فرجعت بذلك حتى مررت على موسى فقال ما فرض الله لك على أمتك قلت فرض خمسين صلاة قال فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعت فوضع شطرها فرجعت إلى موسى قلت وضع شطرها فقال راجع ربك فإن أمتك لا تطيق فراجعت فوضع شطرها فرجعت إليه فقال ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعته فقال هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فرجعت إلى موسى فقال راجع ربك فقلت استحييت من ربي ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبايل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك [ ص: 546 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 546 ] ( بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الصلاة ) تقدم في مقدمة هذا الشرح ذكر مناسبة كتب هذا الصحيح في الترتيب ملخصا من كلام شيخنا شيخ الإسلام ، وفي أوائلها مناسبة تعقيب الطهارة بالصلاة لتقدم الشرط على المشروط والوسيلة على المقصود ، وقد تأملت كتاب الصلاة منه فوجدته مشتملا على أنواع تزيد على العشرين ، فرأيت أن أذكر مناسبتها في ترتيبها قبل الشروع في شرحها ، فأقول : بدأ أولا بالشروط السابقة على الدخول في الصلاة وهي الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة ودخول الوقت ، ولما كانت الطهارة تشتمل على أنواع أفردها بكتاب ، واستفتح كتاب الصلاة بذكر فرضيتها لتعين وقته دون غيره من أركان الإسلام ، وكان ستر العورة لا يختص بالصلاة فبدأ به لعمومه ثم ثنى بالاستقبال للزومه في الفريضة والنافلة إلا ما استثنى كشدة الخوف ونافلة السفر ، وكان الاستقبال يستدعي مكانا فذكر المساجد ، ومن توابع الاستقبال سترة المصلي فذكرها ، ثم ذكر الشرط الباقي وهو دخول الوقت وهو خاص بالفريضة ، وكان الوقت يشرع الإعلام به فذكر الأذان ، وفيه إشارة إلى أنه حق الوقت ، وكان الأذان إعلاما بالاجتماع إلى الصلاة فذكر الجماعة ، وكان أقلها إماما ومأموما فذكر الإمامة .

                                                                                                                                                                                                        ولما انقضت الشروط وتوابعها ذكر صفة الصلاة ولما كانت الفرائض في الجماعة قد تختص بهيئة مخصوصة ذكر الجمعة والخوف ، وقدم الجمعة لأكثريتها . ثم تلا ذلك بما يشرع فيه الجماعة من النوافل فذكر العيدين والوتر والاستسقاء والكسوف وأخره لاختصاصه بهيئة مخصوصة وهي زيادة الركوع ، ثم تلاه بما فيه زيادة سجود فذكر سجود التلاوة ; لأنه قد يقع في الصلاة ، وكان إذا وقع اشتملت الصلاة على زيادة مخصوصة فتلاه بما يقع فيه نقص من عددها وهو قصر الصلاة ، ولما انقضى ما يشرع فيه الجماعة ذكر ما لا يستحب فيه وهو سائر التطوعات .

                                                                                                                                                                                                        ثم للصلاة بعد الشروع فيها شروط ثلاثة وهي ترك الكلام وترك الأفعال الزائدة وترك المفطر فترجم لذلك ، ثم بطلانها يختص بما وقع على وجه العمد فاقتضى ذلك ذكر أحكام السهو ، ثم جميع ما تقدم متعلق بالصلاة ذات الركوع والسجود فعقب ذلك بصلاة لا ركوع فيها ولا سجود وهي الجنازة .

                                                                                                                                                                                                        هذا آخر ما ظهر من مناسبة ترتيب كتاب الصلاة من هذا الجامع الصحيح ، ولم يتعرض أحد من الشراح لذلك . فلله الحمد على ما ألهم وعلم .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 547 ] [ ص: 548 ] قوله : ( باب كيف فرضت الصلاة ) ، وفي رواية الكشميهني والمستملي " الصلوات " . ( في الإسراء ) أي في ليلة الإسراء ، وهذا مصير من المصنف إلى أن المعراج كان في ليلة الإسراء ، وقد وقع في ذلك اختلاف فقيل : كانا في ليلة واحدة في يقظته - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو المشهور عند الجمهور ، وقيل : كانا جميعا في ليلة واحدة في منامه ، وقيل : وقعا جميعا مرتين في ليلتين مختلفتين إحداهما يقظة والأخرى مناما ، وقيل كان الإسراء إلى بيت المقدس خاصة في اليقظة وكان المعراج مناما إما في تلك الليلة أو في غيرها ، والذي ينبغي أن لا يجري فيه الخلاف أن الإسراء إلى بيت المقدس كان في اليقظة لظاهر القرآن ، ولكون قريش كذبته في ذلك ولو كان مناما لم تكذبه فيه ولا في أبعد منه .

                                                                                                                                                                                                        وقد روى هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة لكن طرقه في الصحيحين تدور علىأنس مع اختلاف أصحابه عنه ، فرواه الزهري عنه عن أبي ذر كما في هذا الباب ، ورواه قتادة عنه عن مالك بن صعصعة ، ورواه شريك بن أبي نمر وثابت البناني عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة ، وفي سياق كل منهم عنه ما ليس عند الآخر .

                                                                                                                                                                                                        والغرض من إيراده هنا ذكر فرض الصلاة فليقع الاقتصار هنا على شرحه ، ونذكر الكلام على اختلاف طرقه وتغاير ألفاظها وكيفية الجمع بينها في الموضع اللائق به وهو في السيرة النبوية قبيل الهجرة إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        والحكمة في وقوع فرض الصلاة ليلة المعراج أنه لما قدس ظاهرا وباطنا حين غسل بماء زمزم بالإيمان والحكمة ، ومن شأن الصلاة أن يتقدمها الطهور ناسب ذلك أن تفرض الصلاة في تلك الحالة ، وليظهر شرفه في الملأ الأعلى ، ويصلي بمن سكنه من الأنبياء وبالملائكة ، وليناجي ربه ، ومن ثم كان المصلي يناجي ربه جل وعلا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ابن عباس ) هذا طرف من حديث أبي سفيان المتقدم موصولا في بدء الوحي ، والقائل " يأمرنا " هو أبو سفيان . ومناسبته لهذه الترجمة أن فيه إشارة إلى أن الصلاة فرضت بمكة قبل الهجرة ; لأن أبا سفيان لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة إلى الوقت الذي اجتمع فيه بهرقل لقاء يتهيأ له معه أن يكون آمرا له بطريق الحقيقة ، والإسراء كان قبل الهجرة بلا خلاف ، وبيان الوقت وإن لم يكن من الكيفية حقيقة لكنه من جملة مقدماتها كما وقع نظير ذلك في أول الكتاب في قوله " كيف كان بدء الوحي " وساق فيه ما يتعلق بالمتعلق بذلك فظهرت المناسبة .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 549 ] قوله : ( فرج ) بضم الفاء وبالجيم أي فتح ، والحكمة فيه أن الملك انصب إليه من السماء انصبابة واحدة ولم يعرج على شيء سواه مبالغة في المناجاة وتنبيها على أن الطلب وقع على غير ميعاد ، ويحتمل أن يكون السر في ذلك التمهيد لما وقع من شق صدره ، فكأن الملك أراه بانفراج السقف والتئامه في الحال كيفية ما سيصنع به لطفا به وتثبيتا له ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ففرج صدري ) هو بفتح الفاء وبالجيم أيضا أي شقه ، ورجح عياض أن شق الصدر كان وهو صغير عند مرضعته حليمة ، وتعقبه السهيلي بأن ذلك وقع مرتين وهو الصواب ، وسيأتي تحقيقه عند الكلام على حديث شريك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        ومحصله أن الشق الأول كان لاستعداده لنزع العلقة التي قيل له عندها هذا حظ الشيطان منك . والشق الثاني كان لاستعداده للتلقي الحاصل له في تلك الليلة ، وقد روى الطيالسي والحارث في مسنديهما من حديث عائشة أن الشق وقع مرة أخرى عند مجيء جبريل له بالوحي في غار حراء والله أعلم . ومناسبته ظاهرة . وروي الشق أيضا وهو ابن عشر أو نحوها في قصة له مع عبد المطلب أخرجها أبو نعيم في الدلائل . وروي مرة أخرى خامسة ولا تثبت .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم جاء بطست ) بفتح الطاء وبكسرها إناء معروف سبق تحقيقه في الوضوء ، وخص بذلك ; لأنه آلة الغسل عرفا وكان من ذهب ; لأنه أعلى أواني الجنة ، وقد أبعد من استدل به على جواز تحلية المصحف وغيره بالذهب ; لأن المستعمل له الملك ، فيحتاج إلى ثبوت كونهم مكلفين بما كلفنا به ، ووراء ذلك كان على أصل الإباحة ; لأن تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة كما سيأتي واضحا في اللباس .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ممتلئ ) كذا وقع بالتذكير على معنى الإناء لا على لفظ الطست ; لأنها مؤنثة ، و ( حكمة وإيمانا ) بالنصب على التمييز ، والمعنى أن الطست جعل فيها شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة فسمي حكمة وإيمانا مجازا ، أو مثلا له بناء على جواز تمثيل المعاني كما يمثل الموت كبشا .

                                                                                                                                                                                                        قال النووي : في تفسير الحكمة أقوال كثيرة مضطربة صفا لنا منها أن الحكمة العلم المشتمل على المعرفة بالله مع نفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل به والكف عن ضده ، والحكيم من حاز ذلك . ا هـ ملخصا .

                                                                                                                                                                                                        وقد تطلق الحكمة على القرآن وهو مشتمل على ذلك كله ، وعلى النبوة كذلك ، وقد تطلق على العلم فقط ، وعلى المعرفة فقط ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم أخذ بيدي ) استدل به بعضهم على أن المعراج وقع غير مرة لكون الإسراء إلى بيت المقدس لم يذكر هنا ، ويمكن أن يقال هو من اختصار الراوي ، والإتيان بثم المقتضية للتراخي لا ينافي وقوع أمر الإسراء بين الأمرين المذكورين وهما الإطباق والعروج بل يشير إليه ، وحاصله أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر ، ويؤيده ترجمة المصنف كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فعرج ) بالفتح أي الملك ( بي ) وفي رواية الكشميهني " به " على الالتفات أو التجريد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( افتح ) يدل على أن الباب كان مغلقا . قال ابن المنير حكمته التحقق أن السماء لم تفتح إلا من أجله ، بخلاف ما لو وجده مفتوحا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال جبريل ) فيه من أدب الاستئذان أن المستأذن يسمي نفسه لئلا يلتبس بغيره .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أأرسل إليه ) وللكشميهني " أوأرسل إليه " يحتمل أن يكون خفي عليه أصل إرساله لاشتغاله [ ص: 550 ] بعبادته ، ويحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعروج إلى السماء وهو الأظهر لقوله " إليه " ، ويؤخذ منه أن رسول الرجل يقوم مقام إذنه ; لأن الخازن لم يتوقف عن الفتح له على الوحي إليه بذلك ، بل عمل بلازم الإرسال إليه ، وسيأتي في هذا حديث مرفوع في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى ، ويؤيد الاحتمال الأول قوله في رواية شريك " أوقد بعث " لكنها من المواضع التي تعقبت كما سيأتي تحريرها في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أسودة ) وزن أزمنة وهي الأشخاص من كل شيء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قلت لجبريل من هذا ) ظاهره أنه سأل عنه بعد أن قال له آدم مرحبا ، ورواية مالك بن صعصعة بعكس ذلك وهي المعتمدة فتحمل هذه عليها إذ ليس في هذه أداة ترتيب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( نسم بنيه ) النسم بالنون والمهملة المفتوحتين جمع نسمة وهي الروح ، وحكى ابن التين أنه رواه بكسر الشين المعجمة وفتح الياء آخر الحروف بعدها ميم وهو تصحيف ، وظاهره أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء ، وهو مشكل .

                                                                                                                                                                                                        قال القاضي عياض : قد جاء أن أرواح الكفار في سجين وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة ، يعني فكيف تكون مجتمعة في سماء الدنيا ؟ وأجاب بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتا فصادف وقت عرضها مرور النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدل - على أن كونهم في الجنة والنار إنما هو في أوقات دون أوقات - قوله تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا واعترض بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء كما هو نص القرآن . والجواب عنه ما أبداه هو احتمالا أن الجنة كانت في جهة يمين آدم والنار في جهة شماله ، وكان يكشف له عنهما ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                        ويحتمل أن يقال : إن النسم المرئية هي التي لم تدخل الأجساد بعد وهي مخلوقة قبل الأجساد ومستقرها عن يمين آدم وشماله . وقد أعلم بما سيصيرون إليه ، فلذلك كان يستبشر إذا نظر إلى من عن يمينه ويحزن إذا نظر إلى من عن يساره ، بخلاف التي في الأجساد فليست مرادة قطعا ، وبخلاف التي انتقلت من الأجساد إلى مستقرها من جنة أو نار فليست مرادة أيضا فيما يظهر . وبهذا يندفع الإيراد ويعرف أن قوله " نسم بنيه " عام مخصوص ، أو أريد به الخصوص .

                                                                                                                                                                                                        وأما ما أخرجه ابن إسحاق والبيهقي من طريقه في حديث الإسراء فإذا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين ، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني والبزار " فإذا عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة ، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة ، إذا نظر عن يمينه استبشر ، وإذا نظر عن شماله حزن " فهذا لو صح لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم ، ولكن سنده ضعيف .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال أنس فذكر ) أي أبو ذر ( أنه وجد ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولم يثبت ) أي أبو ذر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإبراهيم في السماء السادسة ) هو موافق لرواية شريك عن أنس ، والثابت في جميع الروايات غير هاتين أنه في السابعة . فإن قلنا بتعدد المعراج فلا تعارض ، وإلا فالأرجح رواية الجماعة لقوله فيها أنه رآه مسندا ظهره إلى البيت المعمور وهو في السابعة بلا خلاف ، وأما ما جاء عن علي أنه في السادسة عند [ ص: 551 ] شجرة طوبى فإن ثبت حمل على أنه البيت الذي في السادسة بجانب شجرة طوبى ; لأنه جاء عنه أن في كل سماء بيتا يحاذي الكعبة وكل منها معمور بالملائكة ، وكذا القول فيما جاء عن الربيع بن أنس وغيره أن البيت المعمور في السماء الدنيا ، فإنه محمول على أول بيت يحاذي الكعبة من بيوت السماوات ويقال إن اسم البيت المعمور " الضراح " بضم المعجمة وتخفيف الراء وآخره مهملة ، ويقال بل هو اسم سماء الدنيا ، ولأنه قال هنا إنه لم يثبت كيف منازلهم فرواية من أثبتها أرجح ، وسأذكر مزيدا لهذا في كتاب التوحيد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال أنس فلما مر ) ظاهره أن هذه القطعة لم يسمعها أنس من أبي ذر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( مر جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بإدريس ) الباء الأولى للمصاحبة والثانية للإلصاق أو بمعنى على .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم مررت بعيسى ) ليست " ثم " على بابها في الترتيب ، إلا إن قيل بتعدد المعراج ، إذ الروايات متفقة على أن المرور به كان قبل المرور بموسى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال ابن شهاب فأخبرني ابن حزم ) أي أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم . وأما أبوه محمد فلم يسمع الزهري منه لتقدم موته ، لكن رواية أبي بكر عن أبي حبة منقطعة ; لأنه استشهد بأحد قبل مولد أبي بكر بدهر وقبل مولد أبيه محمد أيضا ، وأبو حبة بفتح المهملة وبالموحدة المشددة على المشهور ، وعند القابسي بمثناة تحتانية وغلط في ذلك ، وذكره الواقدي بالنون .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حتى ظهرت ) أي ارتفعت ، و ( المستوى ) المصعد و ( صريف الأقلام ) بفتح الصاد المهملة تصويتها حالة الكتابة ، والمراد ما تكتبه الملائكة من أقضية الله سبحانه وتعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال ابن حزم ) أي عن شيخه ( وأنس ) أي عن أبي ذر كذا جزم به أصحاب الأطراف ، ويحتمل أن يكون مرسلا من جهة ابن حزم ومن رواية أنس بلا واسطة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ففرض الله على أمتي خمسين صلاة ) في رواية ثابت عن أنس عند مسلم فرض الله علي خمسين صلاة كل يوم وليلة ونحوه في رواية مالك بن صعصعة عند المصنف ، فيحتمل أن يقال في كل من رواية الباب والرواية الأخرى اختصار ، أو يقال ذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على الأمة وبالعكس إلا ما يستثنى من خصائصه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فراجعني ) وللكشميهني فراجعت والمعنى واحد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فوضع شطرها ) في رواية مالك بن صعصعة " فوضع عني عشرا " ومثله لشريك ، وفي رواية ثابت " فحط عني خمسا " قال ابن المنير : ذكر الشطر أعم من كونه وقع في دفعة واحدة . قلت : وكذا العشر فكأنه وضع العشر في دفعتين والشطر في خمس دفعات ، أو المراد بالشطر في حديث الباب البعض وقد حققت رواية ثابت أن التخفيف كان خمسا خمسا وهي زيادة معتمدة يتعين حمل باقي الروايات عليها ، وأما قول الكرماني الشطر هو النصف ففي المراجعة الأولى وضع خمسا وعشرين وفي الثانية ثلاثة عشر يعني نصف الخمسة والعشرين بجبر الكسر وفي الثالثة سبعا ، كذا قال . وليس في حديث الباب في المراجعة الثالثة ذكر وضع شيء ، إلا أن يقال حذف ذلك اختصارا فيتجه ، لكن الجمع بين الروايات يأبى هذا الحمل ، [ ص: 552 ] فالمعتمد ما تقدم . وأبدى ابن المنير هنا نكتة لطيفة في قوله - صلى الله عليه وسلم - لموسى عليه السلام لما أمره أن يرجع بعد أن صارت خمسا فقال : استحييت من ربي ، قال ابن المنير : يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - تفرس من كون التخفيف وقع خمسا خمسا أنه لو سأل التخفيف بعد أن صارت خمسا لكان سائلا في رفعها فلذلك استحيا ا هـ .

                                                                                                                                                                                                        ودلت مراجعته - صلى الله عليه وسلم - لربه في طلب التخفيف تلك المرات كلها أنه علم أن الأمر في كل مرة لم يكن على سبيل الإلزام ، بخلاف المرة الأخيرة ففيها ما يشعر بذلك لقوله سبحانه وتعالى : ما يبدل القول لدي . ويحتمل أن يكون سبب الاستحياء أن العشرة آخر جمع القلة وأول جمع الكثرة ، فخشي أن يدخل في الإلحاح في السؤال لكن الإلحاح في الطلب من الله مطلوب ، فكأنه خشي من عدم القيام بالشكر والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وسيأتي في التوحيد زيادة في هذا ومخالفة . وأبدى بعض الشيوخ حكمة لاختيار موسى تكرير ترداد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لما كان موسى قد سأل الرؤية فمنع وعرف أنها حصلت لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قصد بتكرير رجوعه تكرير رؤيته ليرى من رأى ، كما قيل : لعلي أراهم أو أرى من رآهم [1] قلت : ويحتاج إلى ثبوت تجدد الرؤية في كل مرة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( هن خمس وهن خمسون ) وفي رواية غير أبي ذر " هي " بدل " هن " في الموضعين ، والمراد هن خمس عددا باعتبار الفعل وخمسون اعتدادا باعتبار الثواب ، واستدل به على عدم فرضية ما زاد على الصلوات الخمس كالوتر ، وعلى دخول النسخ في الإنشاءات ولو كانت مؤكدة ، خلافا لقوم فيما أكد ، وعلى جواز النسخ قبل الفعل .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن بطال وغيره : ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين بالخمس قبل أن تصلى ، ثم تفضل عليهم بأن أكمل لهم الثواب . وتعقبه ابن المنير فقال : هذا ذكره طوائف من الأصوليين والشراح ، وهو مشكل على من أثبت النسخ قبل الفعل كالأشاعرة أو منعه كالمعتزلة ، لكونهم اتفقوا جميعا على أن النسخ لا يتصور قبل البلاغ ، وحديث الإسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ ، فهو مشكل عليهم جميعا . قال : وهذه نكتة مبتكرة . قلت : إن أراد قبل البلاغ لكل أحد فممنوع ، وإن أراد قبل البلاغ إلى الأمة فمسلم ، لكن قد يقال : ليس هو بالنسبة إليهم نسخا ، لكن هو نسخ بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه كلف بذلك قطعا ثم نسخ بعد أن بلغه وقبل أن يفعل ، فالمسألة صحيحة التصوير في حقه - صلى الله عليه وسلم - ، والله أعلم . وسيأتي لذلك مزيد في شرح حديث الإسراء في الترجمة النبوية إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حبايل اللؤلؤ ) كذا وقع لجميع رواة البخاري في هذا الموضع بالحاء المهملة ثم الموحدة وبعد الألف تحتانية ثم لام ، وذكر كثير من الأئمة أنه تصحيف وإنما هو " جنابذ " بالجيم والنون وبعد الألف موحدة ثم ذال معجمة كما وقع عند المصنف في أحاديث الأنبياء من رواية ابن المبارك وغيره عن يونس ، وكذا عند غيره من الأئمة .

                                                                                                                                                                                                        ووجدت في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر في هذا الموضع " جنابذ " على الصواب وأظنه من إصلاح بعض الرواة ، وقال ابن حزم في أجوبته على مواضع من البخاري : فتشت على هاتين اللفظتين فلم أجدهما ولا واحدة منهما ولا وقفت على معناهما . انتهى . وذكر غيره أن الجنابذ شبه القباب [ ص: 553 ] واحدها جنبذة بالضم ، وهو ما ارتفع من البناء ، فهو فارسي معرب وأصله بلسانهم كنبذة بوزنه لكن الموحدة مفتوحة والكاف ليست خالصة ، ويؤيده ما رواه المصنف في التفسير من طريق شيبان عن قتادة عن أنس قال " لما عرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ " وقال صاحب المطالع في الحبائل قيل : هي القلائد والعقود ، أو هي من حبال الرمل أي فيها لؤلؤ مثل حبال الرمل جمع حبل وهو ما استطال من الرمل ، وتعقب بأن الحبائل لا تكون إلا جمع حبالة أو حبيلة بوزن عظيمة ، وقال بعض من اعتنى بالبخاري : الحبائل جمع حبالة وحبالة جمع حبل على غير قياس ، والمراد أن فيها عقودا وقلائد من اللؤلؤ .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية