الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        3657 حدثنا عثمان بن صالح حدثنا بكر بن مضر قال حدثني جعفر بن ربيعة عن عراك بن مالك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن القمر انشق على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله في حديث ابن عباس ( أن القمر انشق على زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) هكذا أورده مختصرا ، وعند أبي نعيم من وجه آخر " انشق القمر فلقتين ، قال ابن مسعود : لقد رأيت جبل حراء من بين فلقتي القمر " وهذا يوافق الرواية الأولى في ذكر حراء . وقد أنكر جمهور الفلاسفة انشقاق القمر متمسكين بأن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام ; وكذا قالوا في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى غير ذلك من إنكارهم ما يكون يوم القيامة من تكوير الشمس وغير ذلك ، وجواب هؤلاء إن كانوا كفارا أن يناظروا أولا على ثبوت دين الإسلام ثم يشركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين ، ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض ألزم التناقض ، ولا سبيل إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في القيامة فيستلزم جواز وقوع ذلك معجزة لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أجاب القدماء عن ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قال أبو إسحاق الزجاج في " معاني القرآن " : أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر ولا إنكار للعقل فيه ؛ لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء كما يكوره يوم البعث ويفنيه ، وأما قول بعضهم : لو وقع لجاء متواترا واشترك أهل الأرض في معرفته ولما اختص بها أهل مكة ، فجوابه أن ذلك وقع ليلا وأكثر الناس نيام والأبواب مغلقة وقل من يراصد السماء إلا النادر ، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر ، وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد ، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها ، ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم .

                                                                                                                                                                                                        وقال الخطابي : انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء ، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع ، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة ، فلذلك صار البرهان به أظهر ، وقد أنكر ذلك بعضهم فقال : لو وقع ذلك لم يجز أن يخفى أمره على عوام الناس ؛ لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب ونقل ما لم يعهد ، فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم ، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره . والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها لأنه شيء طلبه خاص من الناس فوقع ليلا ؛ لأن القمر لا سلطان له بالنهار ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نياما ومستكنين بالأبنية ، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بما يلهيه من سمر وغيره ، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه ، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر [ ص: 225 ] الناس ، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه ، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر . ثم أبدى حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شيء منها مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه إلا القرآن بما حاصله :

                                                                                                                                                                                                        إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامة أعقبت هلاك من كذب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رحمة فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية ، فاختص بها القوم الذين بعث منهم لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام ، ولو كان إدراكها عاما لعوجل من كذب به كما عوجل من قبلهم . وذكر أبو نعيم في " الدلائل " نحو ما ذكره الخطابي وزاد : ولا سيما إذا وقعت الآية في بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار الذين يعتقدون أنها سحر ويجتهدون في إطفاء نور الله .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل ذلك من " الصحابة " وأما من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه فجوابه أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه ، وهذا كاف ، فإن الحجة فيمن أثبت لا فيمن يوجد عنه صريح النفي ، حتى إن من وجد عنه صريح النفي يقدم عليه من وجد منه صريح الإثبات . وقال ابن عبد البر : قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة ، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين . ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا ، ويؤيد ذلك بالآية الكريمة ، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر . ثم أجاب بنحو جواب الخطابي وقال : وقد يطلع على قوم قبل طلوعه على آخرين ، وأيضا فإن زمن الانشقاق لم يطل ولم تتوفر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه ، ومع ذلك فقد بعث أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك فجاءت السفار وأخبروا بأنهم عاينوا ذلك ، وذلك لأن المسافرين في الليل غالبا يكونون سائرين في ضوء القمر ولا يخفى عليهم ذلك .

                                                                                                                                                                                                        وقال القرطبي : الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير منحصرة ، ويحتمل أن يكون الله صرف جميع أهل الأرض غير أهل مكة وما حولها عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة ليختص بمشاهدته أهل مكة كما اختصوا بمشاهدة أكثر الآيات ونقلوها إلى غيرهم . ا هـ . وفي كلامه نظر ; لأن أحدا لم ينقل أن أحدا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة المعينة فلم يشاهدوا انشقاقه ، فلو نقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبي جيدا ، ولكن لم ينقل عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك ، فالاقتصار حينئذ على أن الجواب الذي ذكره الخطابي ومن تبعه أوضح ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وأما الآية فالمراد بها قوله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر لكن ذهب بعض أهل العلم من القدماء أن المراد بقوله : وانشق القمر أي سينشق كما قال تعالى : أتى أمر الله أي سيأتي ، والنكتة في ذلك إرادة المبالغة في تحقق وقوع ذلك ، فنزل منزلة الواقع . والذي ذهب إليه الجمهور أصح كما جزم به ابن مسعود وحذيفة وغيرهما ، ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك : وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله : وانشق القمر وقوع انشقاقه ؛ لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة ، وإذا تبين أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا تبين وقوع الانشقاق وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سحر ، ووقع ذلك صريحا في حديث ابن مسعود كما بيناه قبل ، ونقل البيهقي في أوائل البعث والنشور عن الحليمي أن من الناس من يقول : إن المراد بقوله تعالى : وانشق القمر أي سينشق ، قال الحليمي : فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا ، فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثالثة منشقا نصفين عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع أو خمس ، ثم اتصلا فصار في شكل أترجة إلى أن غاب . قال : وأخبرني بعض من أثق به أنه شاهد ذلك في ليلة أخرى . ا هـ . ولقد عجبت من البيهقي كيف أقر هذا مع إيراده حديث ابن مسعود المصرح بأن المراد بقوله تعالى : وانشق القمر أن ذلك وقع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه ساقه هكذا من طريق ابن مسعود في [ ص: 226 ] هذه الآية اقتربت الساعة وانشق القمر قال : لقد انشق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ساق حديث ابن مسعود " لقد مضت آية الدخان والروم والبطشة وانشقاق القمر " وسيأتي الكلام على هذا الحديث الأخير في تفسير سورة الدخان إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية