الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        4788 حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن إسماعيل عن قيس قال قال عبد الله كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء فقلنا ألا نستخصي فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب ثم قرأ علينا يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وقال أصبغ أخبرني ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو ذر

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( جرير ) هو ابن عبد الحميد وإسماعيل هو ابن أبي خالد وقيس هو ابن أبي حازم وعبد الله هو ابن مسعود . وقد تقدم قبل بباب من وجه آخر عن إسماعيل بلفظ " عن ابن مسعود " ووقع عند الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن جرير بلفظ " سمعت عبد الله " ، وكذا لمسلم من وجه آخر عن إسماعيل .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ألا نستخصي ) أي ألا نستدعي من يفعل لنا الخصاء أو نعالج ذلك بأنفسنا . وقوله ( فنهانا عن ذلك ) هو نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم ، لما تقدم . وفيه أيضا من المفاسد تعذيب النفس والتشويه مع إدخال الضرر الذي قد يفضي إلى الهلاك . وفيه إبطال معنى الرجولية ، وتغيير خلق الله ، وكفر النعمة ، لأن خلق الشخص رجلا من النعم العظيمة فإذا أزال ذلك فقد تشبه بالمرأة واختار النقص على الكمال . قال القرطبي : الخصاء في غير بني آدم ممنوع في الحيوان إلا لمنفعة حاصلة في ذلك كتطييب اللحم أو قطع ضرر عنه . وقال النووي : يحرم خصاء الحيوان غير المأكول مطلقا ، وأما المأكول فيجوز في صغيره دون كبيره . وما أظنه يدفع ما ذكره القرطبي من إباحة ذلك في الحيوان الكبير عند إزالة الضرر .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ثم رخص لنا ) في الرواية السابقة في تفسير المائدة " ثم رخص لنا بعد ذلك " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أن ننكح المرأة بالثوب ) أي إلى أجل في نكاح المتعة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ثم قرأ ) في رواية مسلم " ثم قرأ علينا عبد الله " وكذا وقع عند الإسماعيلي في تفسير المائدة .

                                                                                                                                                                                                        قوله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية . ساق الإسماعيلي إلى قوله المعتدين وظاهر استشهاد ابن مسعود بهذه الآية هنا يشعر بأنه كان يرى بجواز المتعة ، فقال القرطبي : لعله لم يكن حينئذ بلغه الناسخ ، ثم بلغه فرجع بعد . قلت : يؤيده ما ذكره الإسماعيلي أنه وقع في رواية أبي معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد " ففعله ثم ترك ذلك " قال : وفي رواية لابن عيينة عن إسماعيل " ثم جاء تحريمها بعد " وفي رواية معمر عن إسماعيل " ثم نسخ " وسيأتي مزيد البحث في حكم المتعة بعد أربعة وعشرين بابا . الحديث الثالث

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 22 ] قوله ( وقال أصبغ ) كذا في جميع الروايات التي وقفت عليها ، وكلام أبي نعيم في " المستخرج " يشعر بأنه قال فيه حديثا ، وقد وصله جعفر الفريابي في كتاب القدر والجوزقي في " الجمع بين الصحيحين " والإسماعيلي من طرق عن أصبغ ، وأخرجه أبو نعيم من طريق حرملة عن ابن وهب ، وذكر مغلطاي أنه وقع عند الطبري رواه البخاري عن أصبغ بن محمد وهو غلط ، هو أصبغ بن الفرج ليس في آبائه محمد .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إني رجل شاب وأنا أخاف ) في رواية الكشميهني " وإني أخاف " وكذا في رواية حرملة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( العنت ) بفتح المهملة والنون ثم مثناة هو الزنا هـنا ، ويطلق على الإثم والفجور والأمر الشاق والمكروه ، وقال ابن الأنباري : أصل العنت الشدة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ولا أجد ما أتزوج النساء ، فسكت عني ) كذا وقع ، وفي رواية حرملة " ولا أجد ما أتزوج النساء ، فائذن لي أختصي " وبهذا يرتفع الإشكال عن مطابقة الجواب للسؤال .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( جف القلم بما أنت لاق ) أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ فبقي القلم الذي كتب به جافا لا مداد فيه لفراغ ما كتب به ، قال عياض : كتابة الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به ونكل علمه إليه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فاختص على ذلك أو ذر ) في رواية الطبري وحكاها الحميدي في الجمع ووقعت في المصابيح " فاقتصر على ذلك أو ذر " قال الطيبي : معناه اقتصر على الذي أمرتك به أو اتركه وافعل ما ذكرت من الخصاء اهـ . وأما اللفظ الذي وقع في الأصل فمعناه فافعل ما ذكرت أو اتركه واتبع ما أمرتك به ، وعلى الروايتين فليس الأمر فيه لطلب الفعل بل هو للتهديد ، وهو كقوله تعالى وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر والمعنى إن فعلت أو لم تفعل فلا بد من نفوذ القدر ، وليس فيه تعرض لحكم الخصاء . ومحصل الجواب أن جميع الأمور بتقدير الله في الأزل ، فالخصاء وتركه سواء ، فإن الذي قدر لا بد أن يقع . وقوله " على ذلك " هي متعلقة بمقدر أي اختص حال استعلائك على العلم بأن كل شيء بقضاء الله وقدره ، وليس إذنا في الخصاء ، بل فيه إشارة إلى النهي عن ذلك ، كأنه قال إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله فلا فائدة في الاختصاء ، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عثمان بن مظعون لما استأذنه في ذلك . وكانت وفاته قبل هجرة أبي هريرة بمدة .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال " شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العزوبة فقال ألا أختصي ؟ قال : ليس منا من خصى أو اختصى " وفي الحديث ذم الاختصاء ، وقد تقدم ما فيه وأن القدر إذا نفذ لا تنفع الحيل . وفيه مشروعية شكوى الشخص ما يقع له للكبير ولو كان مما يستهجن ويستقبح . وفيه إشارة إلى أن من لم يجد الصداق لا يتعرض للتزويج . وفيه جواز تكرار الشكوى إلى ثلاث ، والجواب لمن لا يقنع بالسكوت ، وجواز السكوت عن الجواب لمن يظن به أنه يفهم المراد من مجرد السكوت . وفيه استحباب أن يقدم طالب الحاجة بين يدي حاجته عذره في السؤال . وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به : ويؤخذ منه أن مهما أمكن المكلف فعل شيء من الأسباب المشروعة لا يتوكل إلا بعد عملها لئلا يخالف الحكمة ، فإذا لم يقدر عليه وطن نفسه على الرضا بما قدره عليه مولاه ولا يتكلف من الأسباب ما لا طاقة به له . وفيه أن الأسباب إذا لم تصادف القدر لا تجدي . فإن قيل : لم لم يؤمر أبو هريرة بالصيام لكسر شهوته كما أمر غيره ؟ فالجواب أن أبا هـريرة كان [ ص: 23 ] الغالب من حاله ملازمة الصيام لأنه كان من أهل الصفة . قلت : ويحتمل أن يكون أبو هريرة سمع يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج الحديث ، لكنه إنما سأل عن ذلك في حال الغزو كما وقع لابن مسعود ، وكانوا في حال الغزو يؤثرون الفطر على الصيام للتقوي على القتال ، فأداه اجتهاده إلى حسم مادة الشهوة بالاختصاء كما ظهر لعثمان فمنعه صلى الله عليه وسلم من ذلك . وإنما لم يرشده إلى المتعة التي رخص فيها لغيره لأنه ذكر أنه لا يجد شيئا ، ومن لم يجد شيئا أصلا لا ثوبا ولا غيره فكيف يستمتع والتي يستمتع بها لا بد لها من شيء




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية