الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                94 حدثني زهير بن حرب وأحمد بن خراش قالا حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا أبي قال حدثني حسين المعلم عن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر حدثه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض ثم أتيته فإذا هو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه فقال ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق ثلاثا ثم قال في الرابعة على رغم أنف أبي ذر قال فخرج أبو ذر وهو يقول وإن رغم أنف أبي ذر

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                وعن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر حدثه قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم عليه ثوب أبيض ، ثم أتيته فإذا هو نائم ، ثم أتيته وقد استيقظ ، فجلست إليه فقال : ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة . قلت : وإن زنى وإن سرق قال : وإن زنى وإن سرق قلت : وإن زنى وإن سرق قال : وإن زنى وإن سرق ( ثلاثا ) ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر قال : فخرج أبو ذر وهو يقول وإن رغم أنف أبي ذر )

                                                                                                                أما الإسناد الأول فكله كوفيون ; محمد بن نمير ، وعبد الله بن مسعود ، ومن بينهما .

                                                                                                                وقوله : ( قال وكيع : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال ابن نمير : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) هذا وما أشبه من الدقائق التي ينبه عليها مسلم - رضي الله عنه - دلائل قاطعة على شدة تحريه وإتقانه ، وضبطه وعرفانه ، وغزارة علمه وحذقه وبراعته في الغوص على المعاني ودقائق علم الإسناد وغير ذلك فرضي الله عنه - . والدقيقة في هذا أن ابن نمير قال رواية عن ابن مسعود : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا متصل لا شك فيه . وقال وكيع رواية عنه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا مما اختلف العلماء فيه هل يحمل على الاتصال أم على الانقطاع ؟ فالجمهور أنه على الاتصال كسمعت . وذهبت طائفة إلى أنه لا يحمل على الاتصال إلا بدليل عليه ، فإذا قيل بهذا المذهب كان مرسل صحابي ، وفي الاحتجاج به خلاف . فالجماهير قالوا : يحتج به وإن لم يحتج بمرسل غيره . وذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الشافعي - - رحمه الله - - إلى أنه لا يحتج به . فعلى هذا يكون هذا الحديث قد روي متصلا ومرسلا . وفي الاحتجاج بما روي مرسلا ومتصلا خلاف معروف . قيل : الحكم للمرسل ; وقيل : للأحفظ رواية ، وقيل : للأكثر . والصحيح أنه تقدم رواية الوصل فاحتاط مسلم - رحمه الله - وذكر اللفظين لهذه الفائدة ، ولئلا يكون راويا بالمعنى فقد أجمعوا على أن الرواية باللفظ أولى . والله أعلم .

                                                                                                                وأما ( أبو سفيان ) الراوي عن جابر فاسمه طلحة بن نافع . و ( أبو الزبير ) اسمه محمد بن مسلم بن تدرس تقدم بيانه .

                                                                                                                وأما قوله : ( قال أبو أيوب : قال أبو الزبير عن جابر ) فمراده أن أبا أيوب وحجاجا اختلفا في عبارة أبي الزبير عن جابر فقال أبو أيوب : عن جابر وقال حجاج : حدثنا جابر . فأما حدثنا فصريحة في [ ص: 272 ] الاتصال ، وأما ( عن ) فمختلف فيها . فالجمهور على أنها للاتصال كحدثنا . ومن العلماء من قال : هي للانقطاع ويجيء فيها ما قدمناه إلا أن هذا على هذا المذهب يكون مرسل تابعي .

                                                                                                                وأما ( قرة ) فهو ابن خالد .

                                                                                                                وأما ( المعرور ) فهو بفتح الميم وإسكان العين المهملة وبراء مهملة مكررة . ومن طرف أحواله أن الأعمش قال رأيت المعرور وهو ابن عشرين ومائة سنة أسود الرأس واللحية .

                                                                                                                وأما ( أبو ذر ) فتقدم أن اسمه جندب بن جنادة على المشهور وقيل غيره . وفي الإسناد ( أحمد بن خراش ) بالخاء المعجمة تقدم .

                                                                                                                وأما ( ابن بريدة ) فاسمه عبد الله ، ولبريدة ابنان سليمان وعبد الله وهما ثقتان ولدا في بطن ، وتقدم ذكرهما أول كتاب الإيمان . وابن بريدة هذا ويحيى بن يعمر وأبو الأسود ثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض .

                                                                                                                ( ويعمر ) بفتح الميم وضمها تقدم أيضا .

                                                                                                                و ( أبو الأسود ) اسمه ظالم بن عمرو هذا هو المشهور . وقيل : اسمه عمرو بن ظالم ، وقيل : عثمان بن عمرو ، وقيل : عمرو بن سفيان ، وقيل : عويمر بن ظويلم . وهو أول من تكلم في النحو وولي قضاء البصرة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه .

                                                                                                                وأما ( الديلي ) فكذا وقع هنا بكسر الدال وإسكان الياء . وقد اختلف فيه فذكر [ ص: 273 ] القاضي عياض أن أكثر أهل السنة يقولون فيه وفي كل من ينسب إلى هذا البطن الذي في كنانة ( ديلي ) بكسر الدال وإسكان الياء كما ذكرنا ، وأن أهل العربية يقولون فيه الدؤلي بضم الدال وبعدها همزة مفتوحة . وبعضهم يكسرها وأنكرها النحاة . هذا كلام القاضي . وقد ضبط الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - هذا وما يتعلق به ضبطا حسنا وهو معنى ما قاله الإمام أبو علي الغساني ، قال الشيخ : هو الديلي ، ومنهم من يقول : ( الدؤلي ) على مثال الجهني وهو نسبة إلى ( الدئل ) بدال مضمومة بعدها همزة مكسورة حي من كنانة وفتحوا الهمزة في النسب كما قالوا في النسب إلى نمر : نمري بفتح الميم . قال : وهذا قد حكاه السيرافي عن أهل البصرة قال : وجدت عن أبي علي القالي وهو بالقاف في كتاب ( البارع ) أنه حكى ذلك عن الأصمعي ، وسيبويه ، وابن السكيت ، والأخفش ، وأبي حاتم ، وغيرهم ، وأنه حكى عن الأصمعي عن عيسى بن عمر أنه كان يقول فيه : ( أبو الأسود الدئلي ) بضم الدال وكسر الهمزة على الأصل . وحكاه أيضا عن يونس وغيره عن العرب يدعونه في النسب على الأصل وهو شاذ في القياس . وذكر السيرافي عن أهل الكوفة أنهم يقولون ( أبو الأسود الديلي ) بكسر الدال وياء ساكنة ، وهو محكي عن الكسائي ، وأبي عبيد القاسم بن سلام ، وعن صاحب كتاب العين ، ومحمد بن حبيب بفتح الباء غير مصروف ، لأنها أمه ، كانوا يقولوا في هذا الحي من كنانة : الديل بإسكان الياء وكسر الدال ، ويجعلونه مثل ( الديل ) الذي هو في عبد القيس . وأما ( الدول ) بضم الدال وإسكان الواو فحي من بني حنيفة . والله أعلم . هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو - رحمه الله - .

                                                                                                                وأما قوله ( ما الموجبتان ؟ ) فمعناه الخصلة الموجبة للجنة ، والخصلة الموجبة للنار .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( على رغم أنف أبي ذر ) فهو بفتح الراء وضمها وكسرها . قوله : ( وإن رغم أنف أبي ذر ) هو بفتح الغين وكسرها . ذكر هذا كله الجوهري ، وغيره . وهو مأخوذ من ( الرغام ) بفتح الراء وهو التراب . فمعنى ( أرغم الله أنفه ) أي ألصقه بالرغام ، وأذله فمعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( على رغم أنف أبي ذر ) أي على ذل منه لوقوعه مخالفا لما يريد . وقيل : معناه على كراهة منه ، وإنما قاله له - صلى الله عليه وسلم - ذلك لاستبعاده العفو عن الزاني السارق المنتهك للحرمة ، واستعظامه ذلك ، وتصور أبي ذر بصورة الكاره الممانع . وإن لم يكن ممانعا وكان ذلك من أبي ذر لشدة نفرته من معصية الله تعالى وأهلها . والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله في رواية ابن مسعود - رضي الله عنه - : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من مات يشرك بالله شيئا دخل النار ، وقلت أنا : ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ) هكذا وقع في أصولنا من صحيح مسلم . وكذا هو في صحيح البخاري . وكذا ذكره القاضي عياض - رحمه الله - في روايته لصحيح مسلم . ووجد في بعض الأصول المعتمدة من صحيح مسلم عكس هذا : ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . قلت أنا : ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار . وهكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن صحيح مسلم - رحمه الله - . وهكذا رواه أبو عوانة في كتابه ( المخرج على صحيح مسلم ) ، وقد صح اللفظان من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر المذكور . فأما اقتصار [ ص: 274 ] ابن مسعود - رضي الله عنه - على رفع إحدى اللفظتين وضمه الأخرى إليها من كلام نفسه فقال القاضي عياض وغيره : سببه أنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إحداهما وضم إليها الأخرى لما علمه من كتاب الله تعالى ووحيه ، أو أخذه من مقتضى ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الذي قاله هؤلاء فيه نقص من حيث إن اللفظتين قد رفعهما من حديث ابن مسعود كما ذكرناه ، فالجيد أن يقال : سمع ابن مسعود اللفظتين من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنه في وقت حفظ إحداهما وتيقنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يحفظ الأخرى فرفع المحفوظة وضم الأخرى إليها وفي وقت آخر حفظ الأخرى ولم يحفظ الأولى مرفوعة ، فرفع المحفوظة وضم الأخرى إليها . فهذا جمع ظاهر بين روايتي ابن مسعود ، وفيه موافقة لرواية غيره في رفع اللفظتين . والله أعلم .

                                                                                                                وأما حكمه - صلى الله عليه وسلم - على من مات يشرك بدخول النار ومن مات غير مشرك بدخوله الجنة فقد أجمع عليه المسلمون . فأما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة . ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره ، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها . ثم حكم بكفره بجحده ما يكفر بجحده وغير ذلك .

                                                                                                                وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا ، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة ، فإن عفي عنه دخل أولا وإلا عذب ، ثم أخرج من النار ، وخلد في الجنة . والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإن زنى وإن سرق ) فهو حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار ، وأنهم إن دخلوها أخرجوا منها وختم لهم بالخلود في الجنة . وقد تقدم هذا كله مبسوطا . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية