الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      142 حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين قالوا حدثنا يحيى بن سليم عن إسمعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه لقيط بن صبرة قال كنت وافد بني المنتفق أو في وفد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نصادفه في منزله وصادفنا عائشة أم المؤمنين قال فأمرت لنا بخزيرة فصنعت لنا قال وأتينا بقناع ولم يقل قتيبة القناع والقناع الطبق فيه تمر ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل أصبتم شيئا أو أمر لكم بشيء قال قلنا نعم يا رسول الله قال فبينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح ومعه سخلة تيعر فقال ما ولدت يا فلان قال بهمة قال فاذبح لنا مكانها شاة ثم قال لا تحسبن ولم يقل لا تحسبن أنا من أجلك ذبحناها لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد فإذا ولد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة قال قلت يا رسول الله إن لي امرأة وإن في لسانها شيئا يعني البذاء قال فطلقها إذا قال قلت يا رسول الله إن لها صحبة ولي منها ولد قال فمرها يقول عظها فإن يك فيها خير فستفعل ولا تضرب ظعينتك كضربك أميتك فقلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن جريج حدثني إسمعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه وافد بني المنتفق أنه أتى عائشة فذكر معناه قال فلم ينشب أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلع يتكفأ وقال عصيدة مكان خزيرة حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا أبو عاصم حدثنا ابن جريج بهذا الحديث قال فيه إذا توضأت فمضمض

                                                                      التالي السابق


                                                                      ( في آخرين ) : أي جماعة آخرين وكان قتيبة بن سعيد منهم ( وافد ) : قال الجوهري في الصحاح .

                                                                      وفد فلان على الأمير أي ورد رسولا فهو وافد والجمع وفد مثل صاحب وصحب وجمع الوافد أوفاد ووفود والاسم الوفادة ، وأوفدته أنا إلى الأمير أي أرسلته انتهى .

                                                                      وفي مجمع بحار الأنوار : الوفد قوم يجتمعون ويردون البلاد ، الواحد وافد وكذا من يقصد الأمراء بالزيارة ( المنتفق ) : بضم الميم وسكون النون وفتح المثناة وكسر الفاء : جد صبرة ( أو في وفد ) : هو شك من الراوي والأول يدل على انفراده أو كونه زعيم الوفد ورئيسهم .

                                                                      وفيه دليل على أنه لا تجب الهجرة على كل من أسلم لأن بني المنتفق وغيرهم لم يهاجروا بل أرسلوا وفودهم وهو كذلك إذا كان في موضع يقدر على إظهار الدين فيه ( قال ) : أي لقيط ( فلم نصادفه ) : قال في الصحاح : صادفت فلانا وجدته ، أي لم نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال ) : أي لقيط ( فأمرت لنا ) : أي عائشة ( بخزيرة ) : بخاء معجمة ثم الزاي بعدها التحتانية ثم الراء على وزن كبيرة : هو لحم يقطع صغارا ويصب [ ص: 187 ] عليه الماء الكثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة وقيل هي حساء من دقيق ودسم ، وقيل إذا كان من دقيق فهو حريرة وإذا كان من نخالة فهو خزيرة . كذا في النهاية .

                                                                      واقتصر الجوهري على القول الأول ( فصنعت ) : بصيغة المجهول أي الخزيرة ( وأتينا ) : بصيغة المجهول ( بقناع ) : بكسر القاف وخفة النون وهو الطبق الذي يؤكل عليه وقيل له القنع بالكسر والضم وقيل القناع جمعه ( ولم يقل قتيبة القناع ) : وفي بعض النسخ : لم يقم قتيبة القناع ، من أقام يقيم أي لم يتلفظ قتيبة بلفظ القناع تلفظا صحيحا بحيث يفهم منه هذا اللفظ ( والقناع الطبق ) : هذا كلام مدرج من أحد الرواة فسر القناع بقوله الطبق ( أصبتم شيئا ) : من الطعام ( أو أمر لكم ) : بصيغة المجهول ، والظاهر أن هذا شك من لقيط بن صبرة ( فبينا نحن ) : كلمة بين بمعنى الوسط بسكون السين وهي من الظروف اللازمة للإضافة ولا يضاف إلا إلى الاثنين فصاعدا أو ما قام مقامه ، كقوله تعالى عوان بين ذلك وقد يقع ظرف زمان ، وقد يقع ظرف مكان بحسب المضاف إليه ، وقد يحذف المضاف إليه ويعوض عنه ما أو الألف فيقال : بينما نحن كذا وبينا نحن كذا ، وقد لا يعوض فيقال هذا الشيء بين بين أي بين الجيد والرديء .

                                                                      ( جلوس ) : جمع جالس والمعنى بين أوقات ، نحن جالسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها إذا دفع الراعي غنمه . الحديث

                                                                      ( إذا دفع ) : أي ساق ( الراعي غنمه ) : وكانت الغنم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( إلى المراح ) : قال الجوهري : المراح بالضم حيث تأوي إليه الإبل والغنم بالليل ( ومعه ) : أي مع الراعي أو مع الغنم .

                                                                      قال الجوهري : الغنم اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكور وعلى الإناث وعليهما جميعا ، وإذا صغرتها ألحقتها الهاء فقلت غنيمة ( سخلة ) : بفتح السين وسكون الخاء المعجمة : ولد الشاة من المعز والضأن حين يولد ذكرا كان أو أنثى . كذا في المحكم ، وقيل يختص بأولاد المعز ، وبه جزم صاحب النهاية قاله السيوطي ( تيعر ) : في القاموس بكسر العين كتضرب وبفتح العين كتمنع ومصدره يعار بضم الياء كغراب وهو صوت الغنم أو المعز أو الشديد من أصوات الشاء ، وماضيه يعرت [ ص: 188 ] أي صاحت وفي النهاية يعار أكثر ما يقال لصوت المعز فمعنى تيعر أي تصوت ( فقال ) : النبي صلى الله عليه وسلم ( ما ولدت ) : بتشديد اللام وفتح التاء ، يقال : ولدت الشاة توليدا إذا حضرت ولادتها فعالجتها حتى تبين الولد منها ، والمولدة القابلة ، والمحدثون يقولون ما ولدت يعنون الشاة والمحفوظ التشديد بخطاب الراعي .

                                                                      قال الإمام أبو سليمان الخطابي : هو بتشديد وفتح تاء خطابا للراعي ، وأهل الحديث يخففون اللام ويسكنون التاء والشاة فاعله وهو غلط . انتهى .

                                                                      لكن قال في التوسط بخفة لام وسكون تاء لا بالتشديد إذ المولدة بالفتح أمها لا هي . انتهى

                                                                      ( يا فلان قال ) : الراعي المدعو بلفظ فلان ( بهمة ) بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء وهي منصوب بإضمار فعل أي ولدت الشاة بهيمة .

                                                                      قال ابن الأثير : هذا الحديث يدل على أن البهمة اسم للأنثى لأنه إنما سأله ليعلم أذكرا ولد أم أنثى وإلا فقد كان يعلم إنما تولد أحدهما . انتهى .

                                                                      قال السيوطي : ويحتمل أنه سأله ليعلم هل المولود واحد أو أكثر ليذبح بقدره من الشياه الكبار كما دل عليه بقية الحديث .

                                                                      ( قال ) : النبي صلى الله عليه وسلم ( مكانها ) : أي السخلة ( ثم قال ) : النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تحسبن ) : بكسر السين صرح به صاحب التوسط قال لقيط : ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تحسبن ) : بفتح السين .

                                                                      قال النووي في شرحه : مراد الراوي أنه صلى الله عليه وسلم نطق هاهنا مكسورة السين ولم ينطق بها بفتحها فلا يظن ظان أني رويتها بالمعنى على اللغة الأخرى أو شككت فيها أو غلطت أو نحو ذلك بل أنا متيقن بنطقه صلى الله عليه وسلم بالكسر وعدم نطقه بالفتح ومع هذا فلا يلزم أن لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم نطق بالمفتوحة في وقت آخر بل قد نطق بذلك فقد قرئ بوجهين انتهى كلام النووي .

                                                                      قال السيوطي : ويحتمل أن الصحابي إنما نبه على ذلك لأنه كان ينطق بالفتح فاستغرب الكسر وضبطه ، ويحتمل أنه كان ينطق بالكسر ورأى الناس ينطقون بالفتح ، فنبه على أن الذي نطق به النبي صلى الله عليه وسلم الكسر ( ذبحناها ) : أي الشاة ، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا لم نتكلف لكم بالذبح لئلا يمتنعوا منا وليبرأ من التعجب والاعتداد على الضيف ( أن تزيد ) : على المائة فتكثر ، لأن هذا القدر كاف لإنجاح حاجتي ( ذبحنا مكانها شاة ) : وقد استمروا بي على هذا ، فلأجل ذلك أمرناها بالذبح ، فلا تظنوا بي أني أتكلف لكم ، والظاهر من هذا القول أنهم لما سمعوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذبح اعتذروا إليه وقالوا : لا [ ص: 189 ] تتكلفوا لنا ، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : لا تحسبن ، هذا ما يفهم من سياق الواقعة ( قال ) : لقيط ( يعني البذاء ) : هو بالمد وفتح الموحدة : الفحش في القول ، يقال : بذوت على القوم ، وأبذيت على القوم وفلان بذي اللسان والمرأة بذية وقد بذو الرجل يبذو بذاء . كذا في الصحاح

                                                                      ( قال ) : أي النبي صلى الله عليه وسلم ( فطلقها إذا ) : أي إذا كانت المرأة ذات لسان وفحش فطلقها ( صحبة ) : معي ( ولي منها ولد ) : قال السيوطي : يطلق الولد على الواحد والجمع وعلى الذكر والأنثى ( فمرها ) : أي المرأة أن تطيعك ولا تعصيك في معروف ( يقول ) : الراوي : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أي ( عظها ) : أمر من الموعظة وهي بالطريق الحسنة أسرع للتأثير ، فأمر لها بالموعظة لتليين قلبها فتسمع كلام زوجها سماع قبول ( فإن يك ) : قال الجوهري : قولهم : لم يك أصله يكون ، فلما دخلت عليها لم جزمتها فالتقى ساكنان فحذفت الواو ، فيبقى لم يكن ، فلما كثر استعمالها حذفوا النون تخفيفا فإذا تحركت أثبتوها ، فقالوا : لم يكن الرجل . وأجاز يونس حذفها مع الحركة ( فيها ) : أي في المرأة ( فستفعل ) : ما تأمرها به .

                                                                      قال السيوطي : وفي رواية الشافعي وابن حبان فتستقبل بالقاف والموحدة وهو صحيح المعنى ، إلا أنه ليس بمشهور انتهى .

                                                                      ( ظعينتك ) : بفتح الظاء المعجمة وكسر العين المهملة : أصلها راحلة ترحل ويظعن عليها أي يسار ، وقيل للمرأة ظعينة لأنها تظعن مع الزوج حيث ما ظعن أو تحمل على الراحلة إذا ظعنت ، وقيل : هي المرأة في الهودج ثم قيل للمرأة وحدها وللهودج وحده . كذا في المجمع .

                                                                      قال السيوطي : هي المرأة التي تكون في الهودج كني بها عن الكريمة ، وقيل : هي الزوجة لأنها تظعن إلى بيت زوجها من الظعن وهو الذهاب ( كضربك أميتك ) : بضم الهمزة وفتح الميم : تصغير الأمة ضد الحرة ، أي جويريتك ، والمعنى : لا تضرب المرأة مثل ضربك الأمة ، وفيه إيماء لطيف إلى الأمر بالضرب بعد عدم قبول الوعظ ، لكن يكون ضربا غير مبرح . قاله السيوطي .

                                                                      ( أسبغ الوضوء ) : بفتح الهمزة ، أي أبلغ مواضعه ، وأوف كل عضو حقه وتممه ولا تترك شيئا من فرائضه وسننه ( وخلل بين الأصابع ) : التخليل : تفريق أصابع اليدين [ ص: 190 ] والرجلين في الوضوء ، وأصله من إدخال شيء في خلال شيء وهو وسطه .

                                                                      قال الجوهري : والتخليل : اتخاذ الخل وتخليل اللحية والأصابع في الوضوء ، فإذا فعل ذلك قال : تخللت انتهى .

                                                                      والحديث فيه دليل على وجوب تخليل أصابع اليدين والرجلين ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ) : فلا تبالغ ، وإنما كره المبالغة للصائم خشية أن ينزل إلى حلقه ما يفطره .

                                                                      قال الطيبي : وإنما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض سنن الوضوء لأن السائل كان عارفا بأصل الوضوء .

                                                                      وقال في التوسط : اقتصر في الجواب علما منه أن السائل لم يسأله عن ظاهر الوضوء بل عما خفي من باطن الأنف والأصابع ، فإن الخطاب بأسبغ إنما يتوجه نحو من علم صفته انتهى .

                                                                      وفيه دليل على وجوب الاستنشاق .

                                                                      قال المنذري : وأخرجه الترمذي في الطهارة وفي الصوم مختصرا وقال هذا حديث حسن صحيح ، وأخرجه النسائي في الطهارة والوليمة مختصرا ، وأخرجه ابن ماجه في الطهارة مختصرا . انتهى .

                                                                      ( حدثنا عقبة بن مكرم ) : بضم أوله وإسكان الكاف وفتح المهملة ( فذكر ) : ابن جريج ( معناه ) : أي معنى حديث يحيى بن سليم فحديث ابن جريج ويحيى بن سليم متقاربان في المعنى غير متحدين في اللفظ ( قال ) : أي زاد ابن جريج في حديثه هذه الجملة ( فلم ننشب ) : كنسمع ، يقال : لم ينشب أي لم يلبث وحقيقته لم يتعلق بشيء غيره ولا اشتغل بسواه ( يتقلع ) : مضارع من التقلع ، والمراد به قوة مشيه كأنه يرفع رجليه من الأرض رفعا قويا لا كمن يمشي اختيالا وتقارب خطى تنعما ، فإنه من مشي النساء ( يتكفأ ) : بالهمزة فهو مهموز اللام ، وقد تترك الهمزة ويلتحق بالمعتل للتخفيف وهاتان الجملتان حاليتان .

                                                                      قال في النهاية : تكفأ ، أي مال يمينا وشمالا كالسفينة .

                                                                      وقال الطيبي : أي يرفع القدم من الأرض ثم يضعها ولا يمسح قدمه على الأرض كمشي المتبختر كأنما ينحط من صبب أي يرفع رجله عن قوة وجلادة ، والأشبه أن " تكفأ " بمعنى صب الشيء دفعة ( وقال ) : ابن جريج في روايته ( عصيدة ) : وهو دقيق يلت بالسمن ويطبخ ، يقال : عصدت العصيدة وأعصدتها اتخذتها .

                                                                      [ ص: 191 ] ( قال فيه ) : أي قال أبو عاصم في حديثه عن ابن جريج ( فمضمض ) : أمر من المضمضة .

                                                                      والحديث فيه الأمر بالمضمضة ، وهذا من الأدلة التي ذهب إليه أحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن أبي ليلى وحماد بن سليمان من وجوب المضمضة في الغسل والوضوء كما ذكره بعض الأعلام .

                                                                      وفي شرح مسلم للنووي أن مذهب أبي ثور وأبي عبيد وداود الظاهري وأبي بكر بن المنذر ورواية عن أحمد أن الاستنشاق واجب في الغسل والوضوء والمضمضة سنة فيهما ، والله أعلم .




                                                                      الخدمات العلمية