الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      4726 حدثنا عبد الأعلى بن حماد ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وأحمد بن سعيد الرباطي قالوا حدثنا وهب بن جرير قال أحمد كتبناه من نسخته وهذا لفظه قال حدثنا أبي قال سمعت محمد بن إسحق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سماواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب قال ابن بشار في حديثه إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته وساق الحديث و قال عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح وافقه عليه جماعة منهم يحيى بن معين وعلي بن المديني ورواه جماعة عن ابن إسحق كما قال أحمد أيضا وكان سماع عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار من نسخة واحدة فيما بلغني

                                                                      التالي السابق


                                                                      ( قال أحمد ) هو ابن سعيد ( كتبناه ) أي الحديث ( من نسخته ) أي من نسخة وهب بن جرير ( وهذا لفظه ) أي لفظ أحمد ( عن أبيه ) هو محمد بن جبير ( عن جده ) هو جبير [ ص: 10 ] بن مطعم ( جهدت ) بصيغة المجهول أي : أوقعت في المشقة ( وضاعت العيال ) عيال الرجل بالكسر من يعوله ويمونه من الزوجة والأولاد والعبيد وغير ذلك .

                                                                      ( ونهكت ) بصيغة المجهول أي نقصت ( وهلكت الأنعام ) جمع نعم محركة الإبل والبقر والغنم ( فاستسق الله لنا ) أي اطلب لنا السقيا من الله تعالى ( فإنا نستشفع ) أي نطلب الشفاعة ( بك ) أي بوجودك وحرمتك وبعظمتك ( ويحك ) بمعنى ويلك إلا أن الأول فيه معنى الشفقة عن المزلة والمزلقة .

                                                                      والثاني [ ص: 11 ] دعاء عليه بالهلكة والعقوبة ، قاله القاري ( وسبح ) أي قال سبحان الله . قال الأردبيلي : فيه دلالة على جواز أن يقال سبحان الله أو لا إله إلا الله على وجه التعجب والإنكار ولا كراهة فيه ، انتهى .

                                                                      ( حتى عرف ذلك ) بصيغة المجهول أي حتى تبين أثر ذلك التغير ( في وجوه أصحابه ) لأنهم فهموا من تكرير تسبيحه أنه - صلى الله عليه وسلم - غضب من ذلك فخافوا من غضبه فتغيرت وجوههم خوفا من الله تعالى ( إنه ) أي الشأن ( لا يستشفع ) بصيغة المجهول ( شأن الله أعظم من ذلك ) أي من أن يستشفع به على أحد .

                                                                      [ ص: 12 ] قال الطيبي : استشفعت بفلان على فلان ليشفع لي إليه فشفعه أجاب شفاعته ، ولما قيل إن الشفاعة هي الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه إلى ذي سلطان عظيم منع - صلى الله عليه وسلم - أن يستشفع بالله على أحد ، وقوله ذلك إشارة إلى أثر هيبة أو خوف استشعر من قوله سبحان الله تنزيها عما نسب إلى الله تعالى من الاستشفاع به على أحد وتكراره مرارا .

                                                                      ( إن عرشه على سماواته ) قال الأردبيلي : هذا يدل على أن السماوات واقفة غير متحركة ولا دائرة كما قال المسلمون وأهل الكتاب خلافا للمنجمين والفلاسفة . انتهى .

                                                                      ( لهكذا ) بفتح اللام الابتدائية دخلت على خبر إن تأكيدا للحكم ( وقال بأصابعه ) أي أشار بها ( مثل القبة عليه ) قال القاري : حال من العرش أي مماثلا لها على ما في جوفها .

                                                                      [ ص: 13 ] قال الطيبي : هو حال من المشار به ، وفي قال معنى الإشارة أي أشار بأصابعه إلى مشابهة هذه الهيئة ، وهي الهيئة الحاصلة للأصابع الموضوعة على الكف مثل حالة الإشارة . انتهى .

                                                                      ( وإنه ) أي العرش ( ليئط ) بكسر الهمزة وتشديد المهملة أي يصوت ( به ) أي بالله تعالى ( أطيط الرحل ) أي كصوته ، والرحل كور الناقة ( بالراكب ) أي الثقيل .

                                                                      [ ص: 14 ] وفي النهاية : أي إن العرش ليعجز عن حمله وعظمته إذ كان معلوما أن أطيط الرجل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله . انتهى .

                                                                      وقال الخطابي : هذا الكلام إذا أجري على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية ، والكيفية عن الله تعالى وعن صفاته منفية ، فعقل أن ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة ولا تحديده على هذه الهيئة وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله وجلاله - جل جلاله سبحانه - وإنما قصد به إفهام السائل من حيث أدركه فهمه إذا كان أعرابيا جلفا لا علم له لمعاني ما دق من الكلام وما لطف منه عن درك الأفهام . وفي الكلام حذف وإضمار ، فمعنى قوله أتدري ما الله فمعناه أتدري ما عظمته وجلاله .

                                                                      [ ص: 15 ] وقوله : " إنه ليئط به " معناه أنه ليعجز عن جلاله وعظمته حتى يئط به ، إذ كان معلوما أن أطيط الرجل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ولعجزه عن احتماله .

                                                                      فقرر بهذا النوع من التمثيل عنده معنى عظمة الله وجلاله وارتفاع عرشه ؛ ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن وجلالة القدر وفخامة الذكر لا يجعل شفيعا إلى من هو دونه في القدر وأسفل منه في الدرجة ، وتعالى الله أن يكون مشبها بشيء أو مكيفا بصورة خلق أو مدركا بحس ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . انتهى .

                                                                      قلت : كلام الإمام الخطابي فيه تأويل بعيد خلاف للظاهر لا حاجة إليه ، وإنما الصحيح المعتمد في أحاديث الصفات إمرارها على ظاهرها من غير تأويل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل كما عليه السلف الصالحون ، والله أعلم .

                                                                      ( وقال عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد بن جبير ) أي قالوا في روايتهم بالواو بين يعقوب وجبير ، وأما أحمد بن سعيد فقال في روايته بعن بينهما كما مر ( وافقه عليه ) أي وافق أحمد بن سعيد على إسناده .

                                                                      ( وكان سماع عبد الأعلى إلخ ) أي فلأجل ذلك اتفق هؤلاء الثلاثة كلهم على ما هو غير الصحيح حيث [ ص: 16 ] قالوا عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد إلخ بالواو .

                                                                      قال المنذري : قال أبو بكر البزار وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة من الوجوه إلا من هذا الوجه ، ولم يقل فيه محمد من إسحاق حدثني يعقوب بن عتبة . هذا آخر كلامه .

                                                                      ومحمد بن إسحاق مدلس ، وإذا قال المدلس عن فلان ولم يقل حدثنا أو سمعت أو أخبرنا لا يحتج بحديثه ، وإلى هذا أشار البزار مع ابن إسحاق إذا صرح بالسماع اختلف الحفاظ في الاحتجاج بحديثه فكيف إذا لم يصرح به ، وقد رواه يحيى بن معين وغيره فلم يذكر فيه لفظة : به .

                                                                      وقال الحافظ أبو القاسم الدمشقي : وقد تفرد به يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس الثقفي الأخنسي عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم القرشي النوفلي وليس لهما في صحيح أبي عبد الله محمد بن [ ص: 17 ] إسماعيل البخاري وأبي الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري رواية ، وانفرد به محمد بن إسحاق بن يسار عن يعقوب وابن إسحاق لا يحتج بحديثه وقد طعن فيه غير واحد من الأئمة وكذبه جماعة منهم .

                                                                      وقال أبو بكر البيهقي : التشبيه بالقبة إنما وقع على العرش ، وهذا حديث ينفرد به محمد بن إسحاق بن يسار عن يعقوب بن عتبة وصاحبا الحديث الصحيح لم يحتجا بهما . هذا آخر كلامه ، وقد تأوله الأئمة على تقدير صحته ، فقال الأستاذ أبو بكر محمد بن الحسين بن فورك ، وذلك لا يرجع إلى العرش وليس فيه ما يدل على أن الله تعالى مماس له مماسة الراكب الرحل ، بل فائدته أنه يسمع للعرش أطيط فضرب كأطيط الرجل إذا ركب ، ويحتمل تأويلا آخر أيضا وهو أن يقول معناه أطيط الملائكة وضجتهم بالتسبيح حول العرش ، والمراد به الطائفون به وهذا شائع كما قال :

                                                                      [ ص: 18 ]

                                                                      واستب بعدك يا كليب المجلس

                                                                      إنما للمراد أهل المجلس ، وكذلك تقول العرب اجتمعت اليمامة والمراد أهلها ، وكذلك يقولون بنو فلان هم الطريق ، والمراد به الواطئون الطريق .

                                                                      قال الخطابي : فمعنى قوله أتدري ما الله معناه : أتدري ما عظمة الله وجلاله ، وأشار إلى أن ظاهر الحديث فيه نوع من الكيفية ، والكيفية عن الله وعن صفاته منفية ، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقريب عظمة الله وجلاله سبحانه .

                                                                      [ ص: 19 ] وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات : هذا حديث ينفرد به محمد بن إسحاق بن يسار عن يعقوب بن عتبة ، وصاحبا الصحيح لم يحتجا به ، إنما استشهد مسلم بن الحجاج بمحمد بن إسحاق في أحاديث معدودة أظنهن خمسة قد رواهن غيره ، وذكر البخاري في الشواهد ذكرا من غير رواية ، وكان مالك بن أنس لا يرضاه ، ويحيى بن سعيد القطان لا يروي عنه ، ويحيى بن معين يقول ليس هو بحجة ، وأحمد بن حنبل يقول يكتب عنه هذه الأحاديث يعني المغازي ونحوها فإذا جاء الحلال والحرام أردنا قوما هكذا يريد أقوى منه .

                                                                      فإذا كان لا يحتج به في الحلال والحرام فأولى أن لا يحتج به في صفات الله سبحانه وتعالى ، وإنما نقموا عليه في روايته عن أهل الكتاب ثم عن ضعفاء الناس وتدليسه أساميهم ، فإذا روى عن ثقة وبين سماعه منه فجماعة من الأئمة لم يروا به بأسا . وهو إنما روى هذا الحديث عن يعقوب بن عتبة وبعضهم يقول عنه وعن جبير بن محمد بن جبير ولم يبين سماعه منهما واختلف عليه في لفظه .

                                                                      [ ص: 20 ] وقد جعله أبو سليمان الخطابي ثابتا واشتغل بتأويله . انتهى كلام البيهقي . ثم ذكر البيهقي كلام الخطابي الذي تقدم آنفا .

                                                                      وقال بعض العلماء ممن ذهب إلى تأويل أحاديث الصفات : حديث العباس ضعيف من وجوه ومعارض بالإجماع والأحاديث ، أما الضعف فمن جهة محمد بن إسحاق ، وأما الإجماع فإنه مخالف لما عليه المفسرون في المساحة والمسافة وفي صفة حملة العرش ، وأما الأحاديث فإنها جاءت في مسيرة خمس مائة واشتهرت عن أبي ذر وأبي سعيد وأبي بردة وغيرهم . انتهى .

                                                                      [ ص: 21 ] وأما قولهم إنه معارض للإجماع الذي عليه المفسرون فهذه دعوى من غير بينة ، فإن المفسرين بأجمعهم لم يجمعوا على خلاف معنى حديث العباس - رضي الله عنه - وذهاب بعض المفسرين المتأخرين بل من المتقدمين أيضا إلى خلاف ذلك لا يفيد الإجماع ، وقد جمع بين الروايتين ، أي رواية المسافة بقدر مسيرة خمسمائة عام كما في حديث أبي هريرة وغيره وبين رواية العباس هذه الحافظ البيهقي في كتاب الأسماء والصفات ، فقال بعد إخراج رواية أبى هريرة ما نصه : هذه الرواية في مسيرة خمسمائة عام اشتهر فيما بين الناس وروينا عن ابن مسعود من قوله مثلها ، ويحتمل أن يختلف ذلك باختلاف قوة السير وضعفه وخفته وثقله ، فيكون بسير القوي أقل وبسير الضعيف أكثر . انتهى .

                                                                      [ ص: 22 ] وقال ابن القيم : وأما اختلاف مقدار المسافة في حديثي العباس وأبي هريرة فهو مما يشهد بتصديق كل منهما للآخر ، وأن المسافة تختلف تقديرها بحسب اختلاف السير الواقع فيها ، فسير البريد مثلا يقطع بقدر سير ركاب الإبل سبع مرات ، وهذا معلوم بالواقع ، فما يسيره الإبل سيرا قاصدا في عشرين يوما يقطعه البريد في ثلاثة .

                                                                      فحيث قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسبعين أراد به السير السريع سير البريد ، وحيث قدر بالخمسمائة أراد به الذي يعرفونه سير الإبل والركاب ، فكل منهما يصدق الآخر ويشهد بصحته ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا انتهى .

                                                                      وقد جاءت في صفة حملة العرش ألوان ذكرها البيهقي فأنى يصح الإجماع ، والله أعلم .

                                                                      [ ص: 23 ] قال الحافظ ابن القيم في تهذيب السنن : أما حملكم فيه على ابن إسحاق فجوابه أن ابن إسحاق بالموضع الذي جعله الله من العلم والأمانة .

                                                                      قال علي بن المديني : حديثه عندي صحيح ، وقال شعبة بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث ، وقال أيضا هو صدوق .

                                                                      وقال علي بن المديني أيضا لم أجد له سوى حديثين منكرين ، وهذا في غاية الثناء والمدح إذ لم يجد له على كثرة ما روى إلا حديثين منكرين .

                                                                      وقال علي أيضا : سمعت ابن عيينة يقول : ما سمعت أحدا يتكلم في ابن إسحاق إلا في قوله في القدر ، ولا ريب أن أهل عصره أعلم به ممن تكلم فيه بعدهم .

                                                                      وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم : سمعت الشافعي يقول : قال الزهري لا يزال بهذه الحرة علم ما دام بها ذلك الأحول يريد ابن إسحاق .

                                                                      [ ص: 24 ] وقال يعقوب بن شيبة : سألت يحيى بن معين : كيف ابن إسحاق؟ قال : ليس بذاك ، قلت : ففي نفسك من حديثه شيء؟ قال : لا كان صدوقا .

                                                                      وقال يزيد بن هارون : سمعت شعبة يقول : لو كان لي سلطان لأمرت ابن إسحاق على المحدثين .

                                                                      وقال ابن عدي : قد فتشت أحاديث ابن إسحاق الكثير فلم أجد في أحاديثه شيئا أن يقطع عليه بالضعف وربما أخطأ أو وهم كما يخطئ غيره ، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة وهو لا بأس به . وقال أحمد بن عبد الله العجلي : ابن إسحاق ثقة .

                                                                      وقد استشهد مسلم بخمسة أحاديث ذكرها لابن إسحاق في صحيحه .

                                                                      [ ص: 25 ] وقد روى الترمذي في جامعه من حديث ابن إسحاق حدثنا سعيد بن عبيد بن السباق عن أبيه عن سهل بن حنيف قال : كنت ألقى من المذي شدة فأكثر الاغتسال منه الحديث .

                                                                      قال الترمذي : هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق ، فهذا حكم قد تفرد به ابن إسحاق في الدنيا وقد صححه الترمذي .

                                                                      فإن قيل فقد كذبه مالك فقال أبو قلابة الرقاشي حدثني أبو داود سليمان بن داود قال : قال يحيى بن القطان : أشهد أن محمد بن إسحاق كذاب ، قلت : وما يدريك؟ قال : قال لي وهيب ، فقلت لوهيب : وما يدريك؟ قال : قال لي مالك بن أنس فقلت لمالك وما يدريك؟ قال : قال لي هشام بن عروة ، قال قلت لهشام وما يدريك؟ قال حدث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر ودخلت عليها [ أدخلت علي ] وهي بنت تسع وما رآها رجل حتى لقيت الله .

                                                                      قيل : هذه الحكاية وأمثالها هي التي غرت من اتهمه بالكذب ، وجوابها من وجوه : أحدها : أن سليمان بن داود راويها عن يحيى هو الشاذكوني ، وقد اتهم بالكذب ، فلا يجوز القدح في الرجل بمثل رواية الشاذكوني .

                                                                      [ ص: 26 ] الثاني : أن في الحكاية ما يدل على أنها كذب فإنه قال دخلت عليها وهي بنت تسع وفاطمة أكبر من هشام بثلاث عشرة سنة ، ولعلها لم تزف إليه إلا وقد زادت على العشرين ، ولما أخذ عنها ابن إسحاق كان لها نحو بضع وخمسين سنة .

                                                                      الثالث : أن هشاما إنما نفى رؤيته لها ولم ينف سماعه منها ، ومعلوم أنه لا يلزم من انتفاء الرؤية انتفاء السماع .

                                                                      قال الإمام أحمد : لعله سمع منها في المسجد أو دخل عليها فحدثته من وراء حجاب ، فأي شيء في هذا وقد كانت امرأة قد كبرت وأسنت .

                                                                      [ ص: 27 ] قال يعقوب بن شيبة : سألت ابن المديني عن ابن إسحاق قال : حديثه عندي صحيح ، قلت : فكلام مالك فيه؟ قال : مالك لم يجالسه ولم يعرفه وأي شيء حدث بالمدينة . قلت : فهشام بن عروة قد تكلم فيه ، قال : الذي قال هشام ليس بحجة ، لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها ، فإن حديثه يستبين فيه الصدق يروي حدثني أبو الزناد ومرة ذكر أبو الزناد ، ويقول حدثني الحسن بن دينار عن أيوب عن عمرو بن شعيب في سلف وبيع وهو أروى الناس عن عمرو بن شعيب .

                                                                      وأما قولكم إنه لم يصرح بسماعه من يعقوب بن عتبة فعلى تقدير ثبوت العلم بهذا النفي لا يخرج الحديث عن كونه حسنا ، فإنه قد لقي يعقوب وسمع منه ، وفي الصحيح قطعة من الاحتجاج بعنعنة المدلس كأبي الزبير عن جابر وسفيان عن عمرو بن دينار ونظائره كثيرة لذلك .

                                                                      [ ص: 28 ] وأما قولكم تفرد به يعقوب بن عتبة ولم يرو عنه أحد من أصحاب الصحيح فهذا ليس بعلة باتفاق المحدثين ، فإن يعقوب ثقة لم يضعفه أحد ، وكم من ثقة قد احتج به وهو غير مخرج عنه في الصحيحين ، وهذا هو الجواب عن تفردمحمد بن جبير عنه فإنه ثقة .

                                                                      وأما قولكم إن ابن إسحاق اضطرب فيه فقد اتفق ثلاثة من الحفاظ عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار على وهب بن جرير عن أبيه عن ابن إسحاق أنه حدث به عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد عن أبيه ، وخالفهم أحمد بن سعيد الدمياطي فقال عن وهب بن جرير عن أبيه سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير ، فإما أن تكون الثلاثة أولى ، وإما أن يكون يعقوب رواه عن جبير بن محمد فسمعه منه ابن إسحاق ثم سمعه من جبير نفسه فحدث به على الوجهين .

                                                                      [ ص: 29 ] وقد قيل إن الواو غلط وإن الصواب عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد عن أبيه .

                                                                      وأما قولكم إنه اختلف لفظه فبعضهم قال ليئط به وبعضهم لم يذكر لفظة به ، فليس في هذا اختلاف يوجب رد الحديث ، فإذا زاد بعض الحفاظ لفظة لم ينفها غيره ولم يرو ما يخالفها فإنها لا تكون موجبة لرد الحديث ، فهذا جواب المنتصرين لهذا الحديث .

                                                                      [ ص: 30 ] قالوا : وقد روي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير حديث ابن إسحاق ، فقال محمد بن عبد الله الكوفي المعروف بمطين حدثنا عبد الله بن الحكم وعثمان قالا حدثنا يحيى عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة عن عمر قال : " أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة فعظم أمر الرب ثم قال إن كرسيه فوق السماوات والأرض وإنه يقعد عليه فما يفصل منه مقدار أربع أصابع ثم قال بأصابعه فجمعها ، وإن له أطيطا كأطيط الرحل " الحديث .

                                                                      [ ص: 31 ] فإن قيل عبد الله بن الحكم وعثمان لا يعرفان ، قيل : بل هما ثقتان مشهوران عثمان بن أبي شيبة وعبد الله بن الحكم القطواني ، وهما من رجال الصحيح .

                                                                      وفي الصحيحين من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق عرشه إن رحمتي غلبت غضبي .

                                                                      وفي لفظ البخاري " وهو وضع عنده على العرش " .

                                                                      [ ص: 32 ] وفي لفظ له أيضا : " فهو مكتوب فوق العرش " ووضع بمعنى موضوع مصدر بمعنى المفعول كنظائره . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى .

                                                                      وقد أطال الكلام في ترجمة محمد بن إسحاق الحافظ الذهبي في " ميزان الاعتدال " ، والحافظ فتح الدين بن سيد الناس اليعمري في " عيون الأثر في المغازي والسير " ، فعليك بمراجعتهما .




                                                                      الخدمات العلمية