الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في العرايا والرخصة في ذلك

                                                                                                          1300 حدثنا هناد حدثنا عبدة عن محمد بن إسحق عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة إلا أنه قد أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بمثل خرصها قال وفي الباب عن أبي هريرة وجابر قال أبو عيسى حديث زيد بن ثابت هكذا روى محمد بن إسحق هذا الحديث وروى أيوب وعبيد الله بن عمر ومالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة وبهذا الإسناد عن ابن عمر عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في العرايا وهذا أصح من حديث محمد بن إسحق

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          العرايا جمع العرية ، وهي عطية ثمر النخل دون الرقبة ، كان العرب في الجدب يتطوع أهل النخل بذلك على من لا ثمر له كما يتطوع صاحب الشاة ، أو الإبل بالمنيحة ، وهي عطية اللبن دون الرقبة ، والعرية فعيلة بمعنى فعولة ، أو فاعلة ، يقال عرى النخل بفتح العين والراء بالتعدية يعروها إذا أفردها عن غيرها بأن أعطاها لآخر على سبيل المنحة ليأكل ثمرها ، وتبقى رقبتها لمعطيها ، ويقال عريت النخل بفتح العين ، وكسر الراء تعرى على أنه قاصر فكأنها عريت عن حكم أخواتها واستثبتت بالعطية ، واختلف في المراد بها شرعا . فقال مالك : والعرية أن يعري الرجل النخلة أي : يهبها له ، أو يهب له ثمرها ، ثم يتأذى بدخوله عليه فرخص له أن يشتريها أي : يشتري رطبها منه بتمر ، كذا نقل البخاري في صحيحه عنه ، وقال الشافعي في الأم : العرايا أن يشتري الرجل ثمن النخلة فأكثر بخرصه من التمر بأن يخرص الرطب ، ثم يقدر كم ينقص إذا يبس ، ثم يشتري بخرصه تمرا فإن تفرقا قبل أن يتقابضا فسد البيع . انتهى ، قال الحافظ في الفتح : محصله أن لا يكون جزافا ، ولا نسيئة . انتهى ، وقال ابن إسحاق في حديثه عن نافع عن ابن عمر : كانت العرايا أن يعري الرجل في ماله النخلة والنخلتين ، كذا في صحيح البخاري قال الحافظ : أما حديث ابن إسحاق [ ص: 438 ] عن نافع فوصله الترمذي دون تفسير ابن إسحاق ، وأما تفسيره فوصله أبو داود عنه بلفظ : النخلات ، وزاد فيه : فيشق عليه فيبيعها بمثل خرصها ، وهذا قريب من الصورة التي قصر مالك العرية عليها . انتهى ، وقال يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين : العرايا نخل كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها ، رخص لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التمر ، كذا في صحيح البخاري ، قال الحافظ : هذا وصله الإمام أحمد في حديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه عن زيد بن ثابت مرفوعا في العرايا ، قال سفيان بن حسين فذكره ، قال الحافظ : وصور العرية كثيرة ، وهذه إحداها ، قال : منها أن يقول الرجل لصاحب حائط بعني ثمر نخلات بأعيانها بخرصها من التمر فيخرصها ، أو يبيعه ويقبض منه التمر ويسلم إليه النخلات بالنخلية فينتفع برطبها . منها أن يهبه إياها فيتضرر الموهوب له بانتظار صيرورة الرطب تمرا ، ولا يحب أكلها رطبا لاحتياجه إلى التمر فيبيع ذلك الرطب بخرصه من الواهب ، أو من غيره بتمر يأخذ معجلا ومنها أن يبيع الرجل ثمر حائطه بعد بدو صلاحه ، ويستثني منه نخلات معلومة يبقيها لنفسه ، أو لعياله ، وهي التي عفي له عن خرصها في الصدقة وسميت عرايا ؛ لأنها أعريت من أن تخرص في الصدقة فرخص لأهل الحاجة الذين لا نقد لهم وعندهم فضول من تمر قوتهم أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك النخلات بخرصها ، ومما يطلق عليه اسم عرية أن : يعري رجلا ثمر نخلات يبيح له أكلها والتصرف فيها ، وهذه هبة مخصوصة ومنها أن يعري عامل الصدقة لصاحب الحاجة من حائطه نخلات معلومة لا يخرصها في الصدقة ، وهاتان الصورتان من العرايا لا بيع فيهما ، وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعي والجمهور ، وقصر مالك العرية في البيع على الصورة الثانية ، وقصرها أبو عبيد على الصورة الأخيرة من صور البيع ، وزاد أنه رخص لهم أن يأكلوا الرطب ، ولا يشتروه لتجارة ، ولا ادخار ، ومنع أبو حنيفة صور البيع كلها وقصر العرية على الهبة ، وهو أن يعري الرجل تمر نخلة من نخله ، ولا يسلم ذلك له ، ثم يبدو له في ارتجاع تلك الهبة ، فرخص له أن يحتبس ذلك ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرطب بخرصه تمرا ، وحمله على ذلك أخذه بعموم النهي عن بيع التمر بالتمر ، وتعقب بالتصريح باستثناء العرايا في حديث ابن عمر كما تقدم ، وفي حديث غيره ، وحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان من أصحابهم أن معنى الرخصة أن الذي وهبت له العرية لم يملكها ؛ لأن الهبة لا تملك إلا بالقبض فلما جاز له أن يعطى بدلها تمرا ، وهو لم يملك البدل منه حتى يستحق البدل كان ذلك مستثنى ، وكان رخصة ، وقال الطحاوي ، بل معنى الرخصة فيه أن المرء مأمور بإمضاء ما وعد به ، ويعطي بدله ، ولو لم يكن واجبا عليه ، فلما أذن له أن يحبس ما وعد به ويعطي بدله ، ولا يكون في حكم من أخلف وعده ، ظهر بذلك معنى الرخصة ، واحتج لمذهبه بأشياء تدل على أن العرية العطية ، ولا حجة في شيء منها ؛ لأنه لا يلزم من كون أصل العرية العطية أن لا تطلق العرية [ ص: 439 ] شرعا على صور أخرى ، قال ابن المنذر : الذي رخص في العرية هو الذي نهى عن بيع الثمر بالتمر في لفظ واحد من رواية جماعة من الصحابة قال : ونظير ذلك الإذن في السلم مع قوله صلى الله عليه وسلم : لا تبع ما ليس عندك قال فمن أجاز السلم مع كونه مستثنى من بيع ما ليس عندك ، ومنع العرية مع كونها مستثناة من بيع الثمر بالتمر ، فقد تناقض ، وأما حملهم الرخصة على الهبة فبعيد مع تصريح الحديث بالبيع واستثناء العرايا منه ، فلو كان المراد الهبة لما استثنيت العرية من البيع ، و لأنه عبر بالرخصة ، والرخصة لا تكون إلا بعد ممنوع ، والمنع إنما كان في البيع لا الهبة ، وبأن الرخصة قيدت بخمسة أوسق ، أو ما دونها ، والهبة لا تتقيد ؛ لأنهم لم يفرقوا في الرجوع في الهبة بين ذي رحم ، وغيره ، وبأنه لو كان الرجوع جائزا فليس إعطاؤه بالتمر بدل الرطب ، بل هو تجديد هبة أخرى ، فإن الرجوع لا يجوز فلا يصح تأويلهم . انتهى .

                                                                                                          قوله : ( نهى عن المحاقلة والمزابنة ) قد تقدم تفسيرهما أيضا ، وهو بيع الثمر في رءوس النخل بالتمر ( إلا أنه قد أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بمثل خرصها ) الخرص بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء : الحزر ، والاسم بالكسر ، قال في النهاية : خرص النخلة والكرمة يخرصها خرصا إذا حزر ما عليها من الرطب تمرا ، ومن العنب زبيبا . فهو من الخرص الظن ؛ لأن الحزر إنما هو تقدير بظن ، والاسم الخرص بالكسر . يقال كم خرص أرضك ؟ . انتهى قوله : ( وفي الباب عن أبي هريرة ) أخرجه الترمذي ، وأخرجه الشيخان أيضا ( وجابر ) أخرجه أحمد والشافعي ، وصححه ابن خزيمة ، وابن حبان والحاكم . قوله : ( هكذا روى محمد بن إسحاق هذا الحديث وروى أيوب إلخ ) يعني : روى محمد بن إسحاق النهي عن المحاقلة والمزابنة والرخصة في العرايا كليهما عن ابن عمر عن زيد بن ثابت ، وروى أيوب ، وغيره النهي عن المحاقلة والمزابنة عن ابن عمر رضي الله عنه بغير واسطة زيد بن ثابت ، والرخصة في العرايا عن ابن عمر عن زيد بن ثابت ، ورواية أيوب وغيره أصح من رواية ابن إسحاق ، قال الحافظ في الفتح : مراد الترمذي أن التصريح بالنهي عن المزابنة لم يرد في حديث زيد بن ثابت ، وإنما رواه ابن عمر بغير واسطة ، وروى ابن عمر استثناء العرايا بواسطة زيد بن ثابت . فإن كانت رواية ابن إسحاق محفوظة احتمل أن يكون ابن عمر حمل الحديث كله عن زيد بن ثابت ، وكان عنده بعضه بغير واسطة ، قال وأشار [ ص: 440 ] الترمذي إلى أن ابن إسحاق وهم فيه ، والصواب التفصيل . انتهى .




                                                                                                          الخدمات العلمية