الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          3630 حدثنا إسحق بن موسى الأنصاري حدثنا معن قال عرضت على مالك بن أنس عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول قال أبو طلحة لأم سليم لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء فقالت نعم فأخرجت أقراصا من شعير ثم أخرجت خمارا لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته في يدي وردتني ببعضه ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذهبت به إليه فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في المسجد ومعه الناس قال فقمت عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلك أبو طلحة فقلت نعم قال بطعام فقلت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه قوموا قال فانطلقوا فانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه وليس عندنا ما نطعمهم قالت أم سليم الله ورسوله أعلم قال فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه حتى دخلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلمي يا أم سليم ما عندك فأتته بذلك الخبز فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت وعصرت أم سليم بعكة لها فآدمته ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول ثم قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا فأكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( قال عرضت على مالك بن أنس ) أي : قرأت هذا الحديث عليه وهو يسمع ( قال أبو طلحة ) هو زيد بن سهل الأنصاري زوج أم سليم والدة أنس ( لقد سمعت صوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضعيفا أعرف فيه الجوع ) فيه العمل على القرائن ، قال القسطلاني : وكأنه لم يسمع في صوته لما تكلم إذ ذاك الفخامة المألوفة منه فحمل ذلك على الجوع بالقرينة التي كانوا فيها ، وفيه رد على دعوى ابن حبان أنه لم يكن يجوع محتجا بحديث أبيت يطعمني ربي ويسقيني ، وهو محمول على تعدد الحال فكان أحيانا يجوع ليتأسى به أصحابه ولا سيما من لا يجد مددا فيصبر فيضاعف أجره ، وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عند مسلم عن أنس قال : جئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم وقد عصب بطنه بعصابة ؛ فسألت بعض أصحابه فقالوا : من الجوع فذهبت إلى أبي طلحة فأخبرته فدخل على أم سليم ( فأخرجت أقراصا ) جمع قرص وهو خبز ( خمارا ) بكسر المعجمة أي : نصيفا ( ثم دسته ) أي : وأخفته وأدخلته ، تقول : دس الشيء يدسه دسا إذا أدخله في الشيء بقهر وقوة ( في يدي ) أي : تحت إبطي ( وردتني ببعضه ) أي : وألبستني ببعض الخمار ، يقال ردى الرجل أي : ألبسته الرداء ( قال ) أي : أنس ( فذهبت به ) أي : بالخبز ( إليه ) أي : النبي -صلى الله عليه وسلم- ( في المسجد ) أي : الموضع الذي هيأه للصلاة في غزوة الأحزاب " أرسلك أبو طلحة " استفهام استخباري " قوموا " قال الحافظ في الفتح : ظاهره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله [ ص: 74 ] فلذلك قال لمن عنده : قوموا ، وأول الكلام يقتضي أن أم سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس فيجمع بأنهما أرادا بإرسال الخبز مع أنس أن يأخذه النبي -صلى الله عليه وسلم- فيأكله ، فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حول النبي -صلى الله عليه وسلم- استحيى وظهر له أن يدعو النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوم معه وحده إلى المنزل فيحصل مقصودهم من إطعامه ، ويحتمل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله عهد إليه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي -صلى الله عليه وسلم- وحده خشية أن لا يكفيهم ذلك الشيء هو ومن معه ، وقد عرفوا إيثار النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه لا يأكل وحده ، وقد وجدت أن أكثر الروايات تقتضي أن أبا طلحة استدعى النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الواقعة ، ففي رواية سعد بن سعيد عن أنس : بعثني أبو طلحة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لأدعوه ، وقد جعل له طعاما ، وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبي -صلى الله عليه وسلم- لنفسه خاصة ثم أرسلتني إليه ، وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس فدخل أبو طلحة على أمي فقال : هل من شيء فقالت : نعم عندي كسر من خبز فإن جاءنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحده أشبعناه ، وإن جاء أحد معه قل عنهم ، وجميع ذلك عند مسلم ، وذكر الحافظ تلك الروايات ( فانطلقوا ) ، وفي رواية محمد بن كعب فقال للقوم : انطلقوا فانطلقوا وهم ثمانون رجلا ( فأخبرته ) أي : بمجيئهم ( وليس عندنا ما نطعمهم ) أي : قدر ما يكفيهم ( قالت أم سليم : الله ورسوله أعلم ) أي : بقدر الطعام فهو أعلم بالمصلحة ولو لم يكن يعلم بالمصلحة لم يفعل ذلك ، قال الحافظ : كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمدا ؛ ليظهر الكرامة في تكثير ذلك الطعام ، ودل ذلك على فطنة أم سليم ورجحان عقلها ، وفي رواية يعقوب فقال أبو طلحة : يا رسول الله إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك ، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى . فقال : ادخل فإن الله سيبارك فيما عندك ( حتى دخلا ) أي : النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو طلحة على أم سليم " هلمي يا أم سليم ما عندك " أي : هات ما عندك ( ففت ) بصيغة المجهول من الفت ، وهو : الدق ، والكسر بالأصابع أي : كسر الخبز ، وفي بعض النسخ : ففتت ، فالضمير للأقراص ( وعصرت أم سليم بعكة ) بضم المهملة وتشديد الكاف إناء من جلد مستدير يجعل فيه السمن غالبا ، والعسل ( فآدمته ) أي : صيرت ما خرج من العكة إداما للمفتوت ، وفي رواية مبارك بن فضالة : فقال : هل من سمن فقال أبو طلحة : قد كان في العكة سمن فجاء بها فجعلا يعصرانها حتى [ ص: 75 ] خرج ثم مسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- به سبابته ثم مسح القرص فانتفخ ، وقال : بسم الله فلم يزل يصنع ذلك ، والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتميع ، وفي رواية سعد بن سعيد : فمسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعا فيها بالبركة ، وفي رواية النضر بن أنس : فجئت بها ففتح رباطها ثم قال : بسم الله اللهم أعظم فيها البركة وعرف بهذا المراد بقوله ، وقال فيها ما شاء الله أن يقول " ثم قال ائذن " أي : بالدخول " لعشرة " أي : من أصحابه ليكون أوفق بهم ؛ فإن الإناء الذي فيه الطعام لا يتحلق عليه أكثر من عشرة إلا بضرر يلحقهم لبعده عنهم ، وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى فلما انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الباب فقال لهم : اقعدوا ودخل ، وفي رواية يعقوب أدخل علي ثمانية فما زال حتى دخل عليه ثمانون رجلا ، ثم دعاني ودعا أمي وأبا طلحة فأكلنا حتى شبعنا قال الحافظ : وهذا يدل على تعدد القصة فإن أكثر الروايات فيها أنه أدخلهم عشرة عشرة سوى هذه فقال : إنه أدخلهم ثمانية ثمانية . انتهى ( فأذن ) أي : أبو طلحة فدخلوا ( فأكلوا ) أي : من ذلك الخبز المأدوم بالسمن ( ثم قال ) أي : النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي طلحة " ائذن لعشرة " أي : ثانية ( والقوم سبعون ، أو ثمانون رجلا ) ، وفي رواية مبارك بن فضالة حتى أكل منه بضعة وثمانون رجلا ، وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى حتى فعل ذلك بثمانين رجلا ثم أكل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك وأهل البيت وتركوا سورا أي : فضلا ، وزاد مسلم في رواية عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة : وأفضل ما بلغوا جيرانهم ، وفي رواية لمسلم : ثم أخذ ما بقي فجمعه ثم دعا فيه بالبركة فعاد كما كان .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي .




                                                                                                          الخدمات العلمية