الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في القنوت في الوتر

                                                                                                          464 حدثنا قتيبة حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء السعدي قال قال الحسن بن علي رضي الله عنهما علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت قال وفي الباب عن علي قال أبو عيسى هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي واسمه ربيعة بن شيبان ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر شيئا أحسن من هذا واختلف أهل العلم في القنوت في الوتر فرأى عبد الله بن مسعود القنوت في الوتر في السنة كلها واختار القنوت قبل الركوع وهو قول بعض أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحق وأهل الكوفة وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه كان لا يقنت إلا في النصف الآخر من رمضان وكان يقنت بعد الركوع وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا وبه يقول الشافعي وأحمد

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( عن بريد ) بضم الموحدة وفتح الراء مصغرا ( بن أبي مريم ) السلولي البصري ثقة مات سنة 144 أربع وأربعين ومائة ( عن أبي الحوراء ) بفتح المهملتين اسمه ربيعة بن شيبان السعدي البصري ثقة .

                                                                                                          قوله : ( اللهم اهدني ) أي ثبتني على الهداية ( فيمن هديت ) أي في جملة من هديتهم أو هديته من الأنبياء والأولياء كما قال سليمان وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وقال ابن الملك : أي اجعلني فيمن هديتهم إلى الصراط المستقيم ، وقيل : في فيه وفيما بعده بمعنى مع قال تعالى فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ( وعافني فيمن عافيت ) قال ابن الملك : من المعافاة التي هي دفع السوء ( وتولني فيمن توليت ) أمر مخاطب من تولى إذا أحب عبدا وقام بحفظه وحفظ أمره ( وبارك ) أي أكثر الخير لي أي لمنفعتي ( فيما أعطيت ) أي فيما أعطيتني من العمر والمال والعلوم والأعمال ( وقني ) أي احفظني ( شر ما قضيت ) ما قدرت لي ( فإنك تقضي ) أي تقدر أو تحكم بكل ما أردت ( ولا يقضى عليك ) فإنه لا معقب لحكمك ( وإنه ) أي الشأن ( لا يذل ) بفتح فكسر أي لا يصير ذليلا ( من واليت ) الموالاة ضد المعاداة ، قال ابن حجر : أي لا يذل من واليت من عبادك في الآخرة أو مطلقا ، وإن ابتلي بما ابتلي به وسلط عليه من أهانه وأذله باعتبار الظاهر ؛ لأن ذلك غاية الرفعة والعزة عند الله وعند أوليائه ولا عبرة إلا بهم ، ومن ثم وقع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الامتحانات العجيبة ما هو مشهور وزاد البيهقي وكذا الطبراني من عدة طرق : ولا يعز من [ ص: 461 ] عاديت : أي لا يعز في الآخرة أو مطلقا وإن أعطي من نعيم الدنيا وملكها ما أعطي لكونه لم يمتثل أوامرك ولم يجتنب نواهيك ( تباركت ) أي تكاثر خيرك في الدارين ( ربنا ) بالنصب أي يا ربنا ( وتعاليت ) أي ارتفعت عظمتك وظهر قهرك وقدرتك على من في الكونين . وقال ابن الملك : أي ارتفعت عن مشابهة كل شيء . وقال الحافظ في بلوغ المرام : زاد النسائي في آخره : وصلى الله على النبي .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن علي ) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في آخر وتره : اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك الحديث .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي ) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي .

                                                                                                          قوله : ( واختلف أهل العلم في القنوت في الوتر ) هل يقنت في الوتر في السنة كلها أم في النصف الآخر من رمضان فقط وهل يقنت قبل الركوع أم بعده ( فرأى عبد الله بن مسعود القنوت في الوتر في السنة كلها واختار القنوت قبل الركوع ) روى محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن إبراهيم أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقنت السنة كلها في الوتر قبل الركوع وسنده منقطع . وروى ابن أبي شيبة عن علقمة أن ابن مسعود وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع : قال ابن التركماني في الجوهر النقي : هذا سند صحيح على شرط مسلم . وقال الحافظ في الدراية : إسناده حسن ( وهو قول بعض أهل العلم ، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق وأهل الكوفة ) وهو قول الحنفية واستدلوا بحديث أبي بن كعب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان [ ص: 462 ] يوتر فيقنت قبل الركوع ، رواه ابن ماجه والنسائي ، وبما روى البخاري في صحيحه في المغازي عن عبد العزيز قال : سأل رجل أنسا رضي الله عنه عن القنوت بعد الركوع أو عند فراغ من القراءة قال بل عند فراغ من القراءة ، وبما روى البخاري ومسلم عن عاصم قال : سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن القنوت ، فقال : قد كان القنوت ، قلت : قبل الركوع أو بعده ؟ قال : قبله ، قال : فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع ، فقال : كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا أراه كان بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم .

                                                                                                          قلت : قد جاء عن أنس روايات مختلفة في هذا الباب .

                                                                                                          ( وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه كان لا يقنت إلا في النصف الآخر من رمضان . وكان يقنت بعد الركوع ) روى محمد بن نصر في قيام الليل عن علي أنه كان يقنت في النصف الآخر من رمضان وروى أيضا فيه أن عليا كان يقنت في الوتر بعد الركوع ، وقد عقد بابا بلفظ : باب ترك القنوت في الوتر إلا في النصف الآخر من رمضان ، وذكر فيه آثارا عديدة فروى أثر معاذ بن الحارث الأنصاري : إذا انتصف رمضان لعن الكفرة ، وكان ابن عمر لا يقنت في الصبح ولا في الوتر إلا في النصف الآخر من رمضان . وعن الحسن كانوا يقنتون في النصف الآخر من رمضان . وكان الحسن ومحمد وقتادة يقولون : القنوت في النصف الآخر من رمضان . وعن عمران بن حدير : أمرني أبو مجلز أن أقنت في النصف الباقي من رمضان ، قال : إذا رفعت رأسك من الركوع فاقنت . وعن ابن شهاب كانوا يلعنون الكفرة في النصف ، وفي رواية : لا قنوت في السنة كلها إلا في النصف الآخر من رمضان . وروي فيه عن الحسن عن أبي بن كعب : أم الناس في رمضان فكان لا يقنت في النصف الأول ويقنت في النصف الآخر فلما دخل العشر أبق وخلا عنهم فصلى بهم معاذ القاري . وسئل سعيد بن جبير عن بدء القنوت في الوتر فقال : بعث عمر بن الخطاب جيشا فورطوا متورطا خاف عليهم فلما كان النصف الآخر من رمضان قلت : يدعو لهم .

                                                                                                          ( وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا وبه يقول الشافعي وأحمد ) قال محمد بن نصر في قيام [ ص: 463 ] الليل : قال الزعفراني عن الشافعي : أحب إلي أن يقنتوا في الوتر في النصف الآخر ولا يقنت في سائر السنة ولا في رمضان إلا في النصف الآخر ، قال محمد بن نصر : وكذلك حكى المزني عن الشافعي حدثني أبو داود قلت لأحمد : القنوت في الوتر السنة كلها ؟ قال : إن شاء ، قلت : فما تختار ؟ قال : أما أنا فلا أقنت إلا في النصف الباقي إلا أن أصلي خلف إمام يقنت فأقنت معه ، قلت : إذا كان يقنت النصف الآخر متى يبتدئ ؟ قال إذا مضى خمس عشرة ليلة سادس عشرة . وكان إسحاق بن راهويه يختار القنوت في السنة كلها ، انتهى كلام محمد بن نصر .

                                                                                                          قلت : استدل من قال بكون القنوت بعد الركوع بحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت بعد الركعة وأبو بكر وعمر حتى كان عثمان فقنت قبل الركعة ليدرك الناس ، قال العراقي إسناده جيد ، وبحديث أبي هريرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع رواه البخاري في المغازي ، وبحديث عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر يقول : اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعدما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ، فأنزل الله ليس لك من الأمر شيء إلى قوله فإنهم ظالمون قال الحافظ في التلخيص : روى البخاري من طريق عاصم الأحول عن أنس أن القنوت قبل الركوع ، وقال البيهقي رواة القنوت بعد الرفع أكثر وأحفظ وعليه درج الخلفاء الراشدون ، انتهى .

                                                                                                          وقال محمد بن نصر في قيام الليل : وسئل أحمد عن القنوت في الوتر قبل الركوع أم بعده وهل ترفع الأيدي في الدعاء في الوتر ؟ فقال : القنوت بعد الركوع ويرفع يديه على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الغداة ، وبذلك قال أبو أيوب وأبو خيثمة وابن أبي شيبة ، وكان إسحاق يختار القنوت بعد الركوع في الوتر . قال محمد بن نصر : وهذا الرأي أختاره ، انتهى .

                                                                                                          قلت : يجوز القنوت في الوتر قبل الركوع وبعده ، والمختار عندي كونه بعد الركوع قال العراقي : ويعضد كونه بعد الركوع أولى فعل الخلفاء الأربعة لذلك والأحاديث الواردة في الصبح ، انتهى .

                                                                                                          واعلم أن الحنفية اختاروا القنوت قبل الركوع فإذا كانوا يريدون القنوت قبل ركوع الركعة الثالثة ، يكبرون ويرفعون أيديهم كرفع اليدين عند التحريمة ، ثم يقنتون ، أما التكبير فيستدلون على ثبوته ببعض الآثار . وقد عقد محمد بن نصر في قيام الليل لذلك بابا فقال : باب التكبير للقنوت ، وذكر فيه عن طارق بن شهاب أن عمر بن الخطاب لما فرغ من القراءة كبر ، ثم قنت ، ثم كبر وركع يعني [ ص: 464 ] في الفجر . وعن علي أنه كبر في القنوت حين فرغ من القراءة وحين ركع وفي رواية كان يفتتح القنوت بتكبيرة ، وكان عبد الله بن مسعود يكبر في الوتر إذا فرغ من قراءته حين يقنت وإذا فرغ من القنوت ، وعن البراء أنه كان إذا فرغ من السورة كبر ، ثم قنت ، وعن إبراهيم في القنوت في الوتر إذا فرغ من القراءة كبر ، ثم قنت ، ثم كبر وركع ، وعن سفيان كانوا يستحبون إذا فرغ من القراءة في الركعة الثالثة من الوتر أن يكبر ، ثم يقنت ، وعن أحمد إذا كان يقنت قبل الركوع افتتح القنوت بتكبيرة .

                                                                                                          قلت : لم أقف على حديث مرفوع في التكبير للقنوت ، ولم أقف على أسانيد هذه الآثار . وأما رفع اليدين في قنوت الوتر فلم أقف على حديث مرفوع فيه أيضا ، نعم جاء فيه عن ابن مسعود من فعله فروى البخاري في جزء رفع اليدين عن الأسود عن عبد الله رضي الله عنه أنه كان يقرأ في آخر ركعة من الوتر قل هو الله أحد ، ثم يرفع يديه فيقنت قبل الركعة . وقد عقد محمد بن نصر بابا بلفظ : باب رفع الأيدي عند القنوت ، وذكر فيه عن الأسود أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يرفع يديه في القنوت إلى صدره . وعن أبي عثمان النهدي كان عمر يقنت بنا في صلاة الغداة ويرفع يديه حتى يخرج ضبعيه . وكان أبو هريرة يرفع يديه في قنوته في شهر رمضان وعن أبي قلابة ومكحول أنهما كانا يرفعان أيديهما في قنوت رمضان ، وذكر آثارا أخرى عن التابعين وغيرهم بعضها في ثبوت رفع اليدين وبعضها في نفيه من شاء الوقوف عليها فليرجع إلى كتاب قيام الليل . وقد استدل الحنفية على ثبوت رفع اليدين في قنوت الوتر كرفعهما عند التحريمة بهذه الآثار ، وفي الاستدلال بها على هذا المطلوب نظر إذ ليس فيها ما يدل على هذا بل الظاهر منها ثبوت رفع اليدين كرفعهما في الدعاء فإن القنوت دعاء .




                                                                                                          الخدمات العلمية