الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 243 ] فصل ( ذكر عداوة قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة )

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر محمد بن إسحاق رحمه الله بعد إبطال الصحيفة قصصا كثيرة ، تتضمن نصب عداوة قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة لحج أو عمرة أو غير ذلك منه ، وإظهار الله المعجزات على يديه ; دلالة على صدقه فيما جاءهم به من البينات والهدى ، وتكذيبا لهم فيما يرمونه من البغي والعدوان والمكر والخداع ، ويرمونه من الجنون والسحر والكهانة والتقول ، والله غالب على أمره ; فذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مرسلة ، وكان سيدا مطاعا شريفا في " دوس " . وكان قد قدم مكة ، فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونهوه أن يجتمع به ، أو يسمع كلامه . قال : فوالله ما زالوا بي ، حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه ، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا ; فرقا من أن يبلغني شيء من قوله ، وأنا لا أريد أن أسمعه . قال : فغدوت إلى المسجد ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي عند الكعبة ، قال : فقمت منه قريبا ، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله ، قال : فسمعت كلاما حسنا . قال : فقلت في نفسي : واثكل أمي ! والله إني لرجل لبيب شاعر ، ما يخفى علي الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته ، وإن كان قبيحا تركته . قال : فمكثت حتى انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 244 ] فاتبعته حتى إذا دخل بيته ، دخلت عليه ، فقلت : يا محمد ، إن قومك قالوا لي كذا وكذا ، للذي قالوا . قال : فوالله ما برحوا بي يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف ; لئلا أسمع قولك ، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك ، فسمعت قولا حسنا ، فاعرض علي أمرك . قال : فعرض علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام ، وتلا علي القرآن ، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ، ولا أمرا أعدل منه . قال : فأسلمت وشهدت شهادة الحق ، وقلت : يا نبي الله ، إني امرؤ مطاع في قومي ، وإني راجع إليهم ، وداعيهم إلى الإسلام ، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه . قال : فقال : " اللهم اجعل له آية " . قال : فخرجت إلى قومي ، حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر ، وقع نور بين عيني مثل المصباح . قال : فقلت : اللهم في غير وجهي ; فإني أخشى أن يظنوا بها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم . قال : فتحول فوقع في رأس سوطي . قال : فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في رأس سوطي كالقنديل المعلق ، وأنا أنهبط عليهم من الثنية ، حتى جئتهم فأصبحت فيهم ، فلما نزلت أتاني أبي ، وكان شيخا كبيرا ، فقلت : إليك عني يا أبت ، فلست منك ولست مني . قال : ولم يا بني ؟ قال : قلت : أسلمت وتابعت دين محمد - صلى الله عليه وسلم - . قال : أي بني ، ديني دينك . فقلت : فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ، ثم ائتني حتى أعلمك مما علمت . قال : فذهب فاغتسل وطهر ثيابه . قال : ثم جاء فعرضت عليه الإسلام ، فأسلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : ثم [ ص: 245 ] أتتني صاحبتي ، فقلت : إليك عني ، فلست منك ولست مني . قالت : ولم ؟ بأبي أنت وأمي . قال : قلت : فرق بيني وبينك الإسلام ، وتابعت دين محمد - صلى الله عليه وسلم - . قالت : فديني دينك . قال : قلت : فاذهبي إلى حنى ذي الشرى ، فتطهري منه . وكان ذو الشرى صنما لدوس ، وكان الحمى حمى حموه له ، به وشل من ماء يهبط من جبل . قالت : بأبي أنت وأمي ، أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئا ؟ قال : قلت : لا ، أنا ضامن لذلك . قال : فذهبت فاغتسلت ، ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت ، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام ، فأبطؤوا علي ، ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، فقلت : يا رسول الله ، إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم . قال : " اللهم اهد دوسا ، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم " . قال : فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام ، حتى هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، ومضى بدر وأحد والخندق ، ثم قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن أسلم معي من قومي ، ورسول الله بخيبر ، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس ، فلحقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر . فأسهم لنا مع المسلمين ، ثم لم أزل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا فتح الله عليه مكة ، قلت : يا رسول الله ، ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه . قال ابن إسحاق : فخرج إليه ، فجعل الطفيل وهو يوقد عليه النار ، يقول :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 246 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا ذا الكفين لست من عبادكا ميلادنا أقدم من ميلادكا


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إني حشوت النار في فؤادكا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان معه بالمدينة ، حتى قبض الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلما ارتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين ، فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها ، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة ، فقال لأصحابه : إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي ; رأيت أن رأسي حلق ، وأنه خرج من فمي طائر ، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها ، وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا ، ثم رأيته حبس عني . قالوا : خيرا . قال : أما أنا والله ، فقد أولتها . قالوا : ماذا ؟ قال : أما حلق رأسي فوضعه ، وأما الطائر الذي خرج منه فروحي ، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي فأغيب فيها ، وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني ، فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني . فقتل رحمه الله تعالى شهيدا باليمامة ، وجرح ابنه جراحة شديدة ، ثم استبل منها ، ثم قتل عام اليرموك زمن عمر شهيدا رحمه الله . هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا إسناد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولخبره شاهد في الحديث الصحيح ; قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : لما قدم الطفيل [ ص: 247 ] وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن دوسا قد استعصت . قال : " اللهم اهد دوسا ، وأت بهم " . رواه البخاري عن أبي نعيم عن سفيان الثوري به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أنبأنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه ، فقالوا : يا رسول الله ، إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها . قال أبو هريرة : فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ، فقلت : هلكت دوس . فقال : " اللهم اهد دوسا ، وأت بهم " . إسناد جيد ، ولم يخرجوه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ قال : حصن كان لدوس في الجاهلية . فأبى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للذي ذخر الله للأنصار ، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه ، فاجتووا المدينة ، فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع [ ص: 248 ] بها براجمه ، فشخبت يداه ، فما رقأ الدم حتى مات ، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئة حسنة ، ورآه مغطيا يديه ، فقال له : ما صنع بك ربك ؟ فقال : غفر لي بهجرتي إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - . قال : فما لي أراك مغطيا يديك ؟ قال : قيل لي : لن يصلح منك ما أفسدت . قال : فقصها الطفيل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم وليديه فاغفر " . رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن سليمان بن حرب به . فإن قيل : فما الجمع بين هذا الحديث ، وبين ما ثبت في " الصحيحين " من طريق الحسن عن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح ، فجزع ، فأخذ سكينا فحز بها يده ، فما رقأ الدم حتى مات ، فقال الله عز وجل : عبدي بادرني بنفسه ، فحرمت عليه الجنة " . فالجواب من وجوه ; أحدها : أنه قد يكون ذاك مشركا ، وهذا مؤمن ، ويكون قد جعل هذا الصنيع سببا مستقلا في دخوله النار ، وإن كان شركه مستقلا ، إلا أنه نبه على هذا لتعتبر أمته . الثاني : قد يكون [ ص: 249 ] هذاك عالما بالتحريم ، وهذا غير عالم لحداثة عهده بالإسلام . الثالث : قد يكون ذاك فعله مستحلا له ، وهذا لم يكن مستحلا ، بل مخطئا . الرابع : قد يكون أراد ذاك بصنيعه المذكور ، أن يقتل نفسه ، بخلاف هذا ، فإنه يجوز أنه لم يقصد قتل نفسه ، وإنما أراد غير ذلك . الخامس : قد يكون هذاك قليل الحسنات ، فلم تقاوم كبر ذنبه المذكور ، فدخل النار ، وهذا قد يكون كثير الحسنات ، فقاومت الذنب ، فلم يلج النار ، بل غفر له بالهجرة إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولكن بقي الشين في يده فقط ، وحسنت هيئة سائره ، فغطى الشين منه ، فلما رآه الطفيل بن عمرو مغطيا يديه ، قال له : ما لك ؟ قال : قيل لي : لن يصلح منك ما أفسدت . فلما قصها الطفيل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا له فقال : " اللهم ، وليديه فاغفر " . أي فأصلح منها ما كان فاسدا . والمحقق أن الله استجاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صاحب الطفيل بن عمرو .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية