الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 192 ] غزوة حنين

                                                                                      قال يونس ، عن ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر ، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله ، عن أبيه ، وحدثني عمرو بن شعيب ، والزهري ، وعبد الله بن أبي بكر ، عن حديث حنين ، حين سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وساروا إليه . فبعضهم يحدث بما لا يحدث به بعض ، وقد اجتمع حديثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة ، جمع عوف بن مالك النصري بني نصر وبني جشم وبني سعد بن بكر ، وأوزاعا من بني هلال ; وهم قليل ; وناسا من بني عمرو بن عامر ، وعوف بن عامر ، وأوعبت معه ثقيف الأحلاف ، وبنو مالك .

                                                                                      ثم سار بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وساق معه الأموال والنساء والأبناء ، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ، فقال : " اذهب فادخل في القوم ، حتى تعلم لنا من علمهم " فدخل فيهم ، فمكث فيهم يوما أو اثنين . ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : " ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد " ؟ فقال عمر : كذب . فقال ابن أبي حدرد : والله لئن كذبتني يا عمر لربما كذبت بالحق . فقال عمر : ألا تسمع يا رسول الله ما يقول ابن أبي حدرد ؟ فقال : " قد كنت يا عمر ضالا فهداك الله " .

                                                                                      ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية ; فسأله أدراعا عنده ; مائة درع ، وما يصلحها من عدتها . فقال : أغصبا يا محمد ؟ قال : بل عارية مضمونة . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا
                                                                                      .

                                                                                      [ ص: 193 ] قال ابن إسحاق : حدثنا الزهري ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين في ألفين من مكة ، وعشرة آلاف كانوا معه ، فسار بهم .

                                                                                      وقال ابن إسحاق : واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية .

                                                                                      وبالإسناد الأول : أن عوف بن مالك أقبل فيمن معه ممن جمع من قبائل قيس وثقيف ، ومعه دريد بن الصمة ; شيخ كبير في شجار له يقاد به ، حتى نزل الناس بأوطاس . فقال دريد حين نزلوها فسمع رغاء البعير ونهيق الحمير ويعار الشاء وبكاء الصغير : بأي واد أنتم ؟ فقالوا بأوطاس . فقال : نعم مجال الخيل ; لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس ، ما لي أسمع رغاء البعير وبكاء الصغير ويعار الشاء ؟ قالوا : ساق مالك مع الناس أموالهم وذراريهم . قال : فأين هو ؟ فدعي ، فقال : يا مالك ، إنك أصبحت رئيس قومك ، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام ، فما دعاك إلى أن تسوق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ؟ قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم . فأنفض به دريد وقال : يا راعي ضأن والله ; وهل يرد وجه المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لا ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك ، فارفع الأموال والنساء والذراري إلى عليا قومهم وممتنع بلادهم . ثم قال دريد : وما فعلت كعب وكلاب ؟ فقالوا : لم يحضرها منهم أحد . فقال : غاب الحد والجد ، لو كان يوم [ ص: 194 ] علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب ولوددت لو فعلتم فعلها ، فمن حضرها ؟ قالوا : عمرو بن عامر ، وعوف بن عامر ، فقال : ذانك الجذعان لا يضران ولا ينفعان . فكره مالك أن يكون لدريد فيها رأي ، فقال : إنك قد كبرت وكبر علمك ، والله لتطيعن يا معشر هوازن ، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري . فقالوا : أطعناك . ثم قال مالك للناس : إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ، ثم شدوا شدة رجل واحد .

                                                                                      وقال الواقدي : سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة لست خلون من شوال ، في اثني عشر ألفا ، فقال أبو بكر : لا نغلب اليوم من قلة . فانتهوا إلى حنين ، لعشر خلون من شوال ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتعبئة ، ووضع الألوية والرايات في أهلها ، وركب بغلته ولبس درعين والمغفر والبيضة . فاستقبلهم من هوازن شيء لم يروا مثله من السواد والكثرة ، وذلك في غبش الصبح . وخرجت الكتائب من مضيق الوادي وشعبه ، فحملوا حملة واحدة ، فانكشفت خيل بني سليم مولية ، وتبعهم أهل مكة ، وتبعهم الناس . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أنصار الله ، وأنصار رسوله ، أنا عبد الله ورسوله " وثبت معه يومئذ : عمه العباس ; وابنه الفضل ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وأخوه ربيعة ، وأبو بكر ، وعمر ، وأسامة بن زيد وجماعة .

                                                                                      وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدثني أمية بن عبد الله بن عمرو [ ص: 195 ] بن عثمان ، أنه حدث أن مالك بن عوف بعث عيونا ، فأتوه وقد تقطعت أوصالهم ، فقال : ويلكم ما شأنكم ؟ فقالوا : أتانا رجال بيض على خيل بلق ، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى . فما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد . منقطع .

                                                                                      وعن الربيع بن أنس ، أن رجلا قال : لن نغلب من قلة . فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، ونزلت ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ( 25 ) ) [ التوبة ] الآية .

                                                                                      وقال معاوية بن سلام ، عن زيد بن سلام ، سمع أبا سلام يقول : حدثني السلولي ، أنه حدثه سهل بن الحنظلية ، أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فأطنبوا السير حتى كان عشية ، فحضرت صلاة الظهر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء فارس فقال : يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم ، بظعنهم ونعمهم وشائهم ، اجتمعوا إلى حنين . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله " ثم قال : من يحرسنا الليلة ؟ قال أنس بن أبي مرثد الغنوي : أنا يا رسول الله . قال : فاركب . فركب فرسا له ، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : " استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ، ولا نغرن من قبلك الليلة " .

                                                                                      فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ، ثم قال : هل أحسستم فارسكم ؟ قالوا : يا رسول الله ، لا . فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى الشعب ، حتى إذا قضى صلاته وسلم قال : " أبشروا ، فقد جاء فارسكم " فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب ، فإذا هو قد جاء ، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحت اطلعت الشعبين ، فنظرت فلم أر أحدا . فقال له رسول الله [ ص: 196 ] صلى الله عليه وسلم . هل نزلت الليلة ؟ قال : لا ، إلا مصليا أو قاضي حاجة . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد أوجبت ، فلا عليك أن لا تعمل بعدها
                                                                                      " أخرجه أبو داود .

                                                                                      وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر ، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله ، عن أبيه ، قال : خرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين ، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها ، فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه ، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فانحط بهم في الوادي في عماية الصبح . فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم ، وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد ، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول : " أيها الناس ، هلموا ، إني أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله " فلا ينثني أحد ، وركبت الإبل بعضها بعضا . فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس ، ومعه رهط من أهل بيته ورهط من المهاجرين ، والعباس آخذ بحكمة بغلته البيضاء ، وثبت معه علي ، وأبو سفيان ، وربيعة ; ابنا الحارث ، والفضل بن عباس ، وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة ، ومن المهاجرين أبو بكر وعمر . قال : ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء أمام هوازن ، إذا أدرك الناس طعن برمحه ، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فيتبعوه . فلما انهزم من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة ، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحور . وإن الأزلام لمعه في كنانته .

                                                                                      قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر ، قال : سار أبو [ ص: 197 ] سفيان إلى حنين ، وإنه ليظهر الإسلام ، وإن الأزلام التي يستقسم بها في كنانته .

                                                                                      قال شيبة بن عثمان العبدري : اليوم أدرك ثأري - وكان أبوه قتل يوم أحد - اليوم أقتل محمدا . قال : فأدرت برسول الله لأقتله ، فأقبل شيء حتى تغشى فؤآدي ، فلم أطق ، فعرفت أنه ممنوع .

                                                                                      وحدثني عاصم ، عن عبد الرحمن ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى من الناس ما رأى قال : " يا عباس ، اصرخ : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السمرة " فأجابوا : لبيك لبيك . فجعل الرجل منهم يذهب ليعطف بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، فيقذف درعه من عنقه ، ويؤم الصوت ، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة . فاستعرضوا الناس ، فاقتتلوا . وكانت الدعوة أول ما كانت للأنصار ، ثم جعلت آخرا بالخزرج ، وكانوا صبرا عند الحرب ، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه ; فنظر إلى مجتلد القوم فقال : " الآن حمي الوطيس " قال : فوالله ما رجعت راجعة الناس إلا والأسارى عند رسول الله . فقتل الله من قتل منهم ، وانهزم من انهزم منهم ، وأفاء الله على رسوله أموالهم ونساءهم وأبناءهم .

                                                                                      وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، وقاله موسى بن عقبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى حنين ، فخرج معه أهل مكة لم يتغادر منهم أحد ، ركبانا ومشاة ; حتى خرج النساء مشاة ، ينظرون ويرجون الغنائم ، ولا يكرهون الصدمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .

                                                                                      وقال ابن عقبة ، جعل أبو سفيان كلما سقط ترس أو سيف من الصحابة ، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطونيه أحمله ، حتى أوقر جمله .

                                                                                      [ ص: 198 ] قالا : فلما أصبح القوم ، اعتزل أبو سفيان ، وابنه معاوية ، وصفوان بن أمية ، وحكيم بن حزام ، وراء تل ، ينظرون لمن تكون الدبرة . وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل الصفوف ; فأمرهم ، وحضهم على القتال . فبينا هم على ذلك حمل المشركون عليهم حملة رجل واحد ، فولوا مدبرين . فقال حارثة بن النعمان : لقد حزرت من بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدبر الناس فقلت مائة رجل . ومر رجل من قريش على صفوان ، فقال : أبشر بهزيمة محمد وأصحابه ، فوالله لا يجتبرونها أبدا . فقال : أتبشرني بظهور الأعراب ؟ فوالله لرب من قريش أحب إلي من رب من الأعراب . ثم بعث غلاما له فقال : اسمع لمن الشعار ؟ فجاءه الغلام فقال : سمعتهم يقولون : يا بني عبد الرحمن ، يا بني عبد الله ، يا بني عبيد الله . فقال : ظهر محمد . وكان ذلك شعارهم في الحرب . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غشيه القتال قام في الركابين ، ويقولون رفع يديه إلى الله تعالى يدعوه ، يقول : " اللهم إني أنشدك ما وعدتني ، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا " ونادى أصحابه : " يا أصحاب البيعة يوم الحديبية ، الله الله ، الكرة على نبيكم " ويقال : قال : " يا أنصار الله وأنصار رسوله ، يا بني الخزرج " وأمر من يناديهم بذلك . وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين ، ونواحيهم كلها ، قال : " شاهت الوجوه "
                                                                                      وأقبل إليه أصحابه سراعا ، وهزم الله المشركين ، وفر مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف في ناس من قومه .

                                                                                      وأسلم حينئذ ناس كثير من أهل مكة ، حين رأوا نصر الله رسوله .

                                                                                      مختصر من حديث ابن عقبة . وليس عند عروة قيام النبي صلى الله عليه وسلم في الركابين ، ولا قوله : يا أنصار الله .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية