الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد .

هذا جواب تضمنه قوله ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ، أي ما يقال من الطعن في القرآن ، فجوابه : أن ذلك الذكر أو الكتاب للذين آمنوا هدى وشفاء ، أي أن تلك الخصال العظيمة للقرآن حرمهم كفرهم الانتفاع بها وانتفع بها المؤمنون فكان لهم هديا وشفاء . وهذا ناظر إلى ما حكاه عنهم من قولهم قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ، فهو إلزام لهم بحكم على أنفسهم .

وحقيقة الشفاء : زوال المرض وهو مستعار هنا للبصارة بالحقائق وانكشاف الالتباس من النفس كما يزول المرض عند حصول الشفاء ، يقال : شفيت نفسه ، إذا زال حرجه ، قال قيس بن زهير :


شفيت النفس من حمل بن بدر وسيفي من حذيفة قد شفاني

ونظيره قولهم : شفي غليله ، وبرد غليله ، فإن الكفر كالداء في النفس لأنه يوقع في العذاب ويبعث على السيئات .

وجملة والذين لا يؤمنون إلخ معطوفة على جملة هو للذين آمنوا هدى فهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، أي وأما الذين لا يؤمنون فلا تتخلل آياته نفوسهم ؛ لأنهم كمن في آذانهم وقر دون سماعه ، وهو ما تقدم في حكاية قولهم وفي آذاننا وقر ، ولهذا الاعتبار كان معنى الجملة متعلقا بأحوال القرآن مع الفريق غير المؤمن من غير تكلف لتقدير جعل الجملة خبرا عن القرآن .

[ ص: 316 ] ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا عن ضمير الذكر ، أي القرآن ، فتكون من مقول القول وكذلك جملة وهو عليهم عمى ، والإخبار عنه بـ ( وقر ، وعمى ) تشبيه بليغ ووجه الشبه هو عدم الانتفاع به مع سماع ألفاظه ، والوقر : داء فمقابلته بالشفاء من محسن الطباق .

وضمير وهو عليهم عمى يتبادر أنه عائد إلى الذكر أو الكتاب كما عاد ضمير هو للذين آمنوا هدى ، والعمى : عدم البصر ، وهو مستعار هنا لضد الاهتداء فمقابلته بالهدى فيها محسن الطباق .

والإسناد إلى القرآن على هذا الوجه في معاد الضمير بأنه عليهم عمى من الإسناد المجازي ؛ لأن عنادهم في قبوله كان سببا لضلالهم فكان القرآن سبب سبب ، كقوله تعالى وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم .

ويجوز أن يكون ضمير ( وهو ) ضمير شأن تنبيها على فظاعة ضلالهم .

وجملة عليهم عمى خبر ضمير الشأن ، أي وأعظم من الوقر أن عليهم عمى ، أي على أبصارهم عمى كقوله وعلى أبصارهم غشاوة .

وإنما علق العمى بالكون على ذواتهم ؛ لأنه لما كان عمى مجازيا تعين أن مصيبته على أنفسهم كلها لا على أبصارهم خاصة فإن عمى البصائر أشد ضرا من عمى الأبصار كقوله تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .

وجملة أولئك ينادون من مكان بعيد خبر ثالث عن الذين لا يؤمنون ، والكلام تمثيل لحال إعراضهم عن الدعوة عند سماعها بحال من ينادى من مكان بعيد لا يبلغ إليه في مثله صوت المنادي على نحو قوله تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع كما تقدم في سورة البقرة . وتقول العرب لمن لا يفهم : أنت تنادى من مكان بعيد .

والإشارة بـ ( أولئك ) إلى الذين لا يؤمنون لقصد التنبيه على أن المشار [ ص: 317 ] إليهم بعد تلك الأوصاف أحرياء بما سيذكر بعدها من الحكم من أجلها نظير أولئك على هدى من ربهم .

ويتعلق من مكان بعيد بـ ( ينادون ) ، وإذا كان النداء من مكان بعيد كان المنادى بالفتح في مكان بعيد لا محالة كما تقدم في تعلق من الأرض بقوله ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض أي دعاكم من مكانكم في الأرض ، وبذلك يجوز أن يكون من مكان بعيد ظرفا مستقرا في موضع الحال من ضمير ( ينادون ) وذلك غير متأت في قوله إذا دعاكم دعوة من الأرض .

التالي السابق


الخدمات العلمية