الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم .

استئناف لبيان سبب الهزيمة الخفي ، وهي استزلال الشيطان إياهم ، وأراد بـ ( يوم التقى الجمعان ) يوم أحد ، و ( استزلهم ) بمعنى أزلهم أي جعلهم زالين ، والزلل [ ص: 140 ] مستعار لفعل الخطيئة ، والسين والتاء فيه للتأكيد ، مثل استفاد واستبشر واستنشق وقول النابغة :


وهم قتلوا الطائي بالجو عنوة أبا جابر فاستنكحوا أم جابر

أي نكحوا . ومنه قوله تعالى واستغنى الله وقوله أبى واستكبر . ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأن المقصود لومهم على وقوعهم في معصية الرسول ، فهو زلل واقع .

والمراد بالزلل الانهزام ، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضده وهو النصر قال تعالى وثبت أقدامنا .

والباء في ببعض ما كسبوا للسببية وأريد ببعض ما كسبوا مفارقة موقفهم ، وعصيان أمر الرسول ، والتنازع ، والتعجيل إلى الغنيمة ، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان ، وما هم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم ، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم ، وإبطال ما عرض به المنافقون من رمي تبعته على أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - بالخروج ، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد . وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه ، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط الخفي وضع أهل المنطق باب القضية اللزومية والقضية الاتفاقية .

ومناسبة ذكر هذه الآية عقب التي قبلها أنه تعالى بعد أن بين لهم مرتبة حق اليقين بقوله قل لو كنتم في بيوتكم انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة ، فبين لهم أنه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم التي أملاها الشيطان عليهم وأضلهم ، فلم يتفطنوا إلى السبب ، والتبس عليهم بالمقارن ، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطئ وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصحيح ، وتزكية النفوس ، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين ، وتعظيمه عندهم ، وتنفيرهم من الشيطان ، والأفعال الذميمة ، ومعصية الرسول ، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين . وعلى هذا فالمراد من [ ص: 141 ] الذين تولوا نفس المخاطبين بقوله ثم صرفكم عنهم الآيات . وضمير منكم راجع إلى عامة جيش أحد فشمل الذين ثبتوا ولم يفروا . وعن السدي أن الذين تولوا جماعة هربوا إلى المدينة .

وللمفسرين في قوله استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا احتمالات ذكرها صاحب الكشاف والفخر ، وهي بمعزل عن القصد .

وقوله ولقد عفا الله عنهم أعيد الإخبار بالعفو تأنيسا لهم كقوله ولقد عفا عنكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية