الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومعنى : بالعدل ، أي : بالحق والإنصاف بحيث لا يكون في قلبه ولا في قلمه ميل لأحدهما على الآخر .

واختلف فيما يتعلق به ( بالعدل ) فقال الزمخشري : بالعدل ، متعلق بـ ( كاتب ) صفة له ، أي : بكاتب مأمون على ما يكتب ، يكتب بالسوية والاحتياط ، لا يزيد على ما يجب أن يكتب ، ولا ينقص ، وفيه أن يكون الكاتب [ ص: 344 ] فقيها عالما بالشروط ، حتى يجيء مكتوبه معدلا بالشرع ، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب ، وأن لا يستكتبوا إلا فقيها دينا .

وقال ابن عطية : والباء متعلقة بقوله تعالى : ( وليكتب ) وليست متعلقة بكاتب ؛ لأنه كان يلزم أن لا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها ، أما أن المنتخبين لكتبها لا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين ، وقيل : الباء زائدة ، أي : فليكتب بينكم كاتب العدل .

وقال القفال في معنى ( بالعدل ) : أن يكون ما يكتبه متفقا عليه بين أهل العلم ، لا يرفع إلى قاض فيجد سبيلا إلى إبطاله بألفاظ لا يتسع فيها التأويل ، فيحتاج الحاكم إلى التوقف ، وقرأ الحسن ( وليكتب ) بكسر لام الأمر ، والكسر الأصل .

( ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ) نهى الكاتب عن الامتناع من الكتابة ، و ( كاتب ) نكرة في سياق النهي ، فتعم ، و ( أن يكتب ) مفعول ( ولا يأب ) ومعنى ( كما علمه ) الله ، أي : مثل ما علمه الله من كتابة الوثائق ، لا يبدل ولا يغير ، وفي ذلك حث على بذل جهده في مراعاة شروطه مما قد لا يعرفه المستكتب ، وفيه تنبيه على المنة بتعليم الله إياه . وقيل : المعنى كما أمره الله به من الحق ، فيكون : علم ، بمعنى : أعلم ، وقيل : المعنى كما فضله الله بالكتاب ، فتكون الكاف للتعليل ، أي : لأجل ما فضله الله ، فيكون كقوله ( وأحسن كما أحسن الله إليك ) أي : لأجل إحسان الله إليك . والظاهر تعلق الكاف بقوله : ( أن يكتب ) وقيل : تم الكلام عند قوله : ( أن يكتب ) وتتعلق الكاف بقوله : ( فليكتب ) ، وهو قلق لأجل الفاء ، ولأجل أنه لو كان متعلقا بقوله : ( فليكتب ) لكان النظم : فليكتب كما علمه الله ، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخر في المعنى .

وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ( كما ) متعلقا بما في قوله : ( ولا يأب ) أي : كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل عليه ، انتهى ، وهو خلاف الظاهر ، وتكون الكاف في هذا القول للتعليل ، وإذا كان متعلقا بقوله : ( أن يكتب ) كان قوله : ( ولا يأب ) نهيا عن الامتناع من الكتابة المقيدة ، ثم أمر بتلك الكتابة ، لا يعدل عنها ، أمر توكيد ، وإذا كان متعلقا بقوله : ( فليكتب ) كان ذلك نهيا عن الامتناع من الكتابة على الإطلاق ، ثم أمر بالكتابة المقيدة .

وقال الربيع ، والضحاك : ( ولا يأب ) منسوخ بقوله : ( لا يضار كاتب ولا شهيد ) .

( فليكتب وليملل الذي عليه الحق ) أي : فليكتب الكاتب ، وليملل من وجب عليه الحق ؛ لأنه هو المشهود عليه بأن الدين في ذمته ، والمستوثق منه بالكتابة .

( وليتق الله ربه ) ، فيما يمليه ويقربه ، وجمع بين اسم الذات وهو : الله ، وبين هذا الوصف الذي هو : الرب ، وإن كان اسم الذات منطوقا على جميع الأوصاف ، ليذكره تعالى كونه مربيا له ، مصلحا لأمره ، باسطا عليه نعمه ، وقدم لفظ ( الله ) لأن مراقبته من جهة العبودية والألوهية أسبق من جهة النعم .

( ولا يبخس منه شيئا ) أي : لا ينقص بالمخادعة أو المدافعة ، والمأمور بالإملال هو المالك لنفسه ، وفك المضاعفين في قوله : ( وليملل ) لغة الحجاز ، وذلك في ما سكن آخره بجزم ، نحو هذا ، أو وقف نحو : أملل ، ولا يفك في رفع ولا نصب وقرئ : شيا ، بالتشديد .

( فإن كان الذي عليه الحق سفيها ) قال مجاهد ، وابن جبير : هو الجاهل بالأمور والإملاء ، وقال الحسن : الصبي والمرأة ، وقال الضحاك ، والسدي : الصغير . وضعف هذا لأنه قد يصدق السفيه على الكبير ، وذكر القاضي أبو يعلى : أنه المبذر . وقال الشافعي : المبذر لماله المفسد لدينه ، وروي عن السدي : أنه الأحمق ، وقيل : الذي يجهل قدر المال فلا يمتنع من تبذيره ولا يرغب في تثميره ، وقال ابن عباس : الجاهل بالإسلام .

( أو ضعيفا ) قال ابن عباس وابن جبير : إنه العاجز ، والأخرس ، ومن به حمق ، وقال مجاهد ، والسدي : الأحمق . وذكر القاضي أبو يعلى ، وغيره : أنه الصغير . وقيل : المدخول العقل ، الناقص الفطرة . وقال الشيخ : الكبير ، وقال الطبري : العاجز عن الإملاء لعي أو لخرس .

[ ص: 345 ] ( أو لا يستطيع أن يمل هو ) قال ابن عباس : لعي أو خرس أو غيبة ، وقيل : بجنون ، وقيل : بجهل بما له أو عليه ، وقيل : لصغر ، والذي يظهر تباين هؤلاء الثلاثة ، فمن زعم زيادة ( أو ) في قوله : ( أو ضعيفا ) أو زيادتها في هذا ، وفي قوله : ( أو لا يستطيع ) فقوله ساقط ؛ إذ ( أو ) لا تزاد ، وأن السفه هو تبذير المال والجهل بالتصرف ، وأن الضعف هو في البدن لصغر أو إفراط شيخ ينقص معه التصرف ، وأن عدم استطاعته الإملاء لعي أو خرس ؛ لأن الاستطاعة هي القدرة على الإملال ، وهذا الشرح أكثره عن الزمخشري .

وقال ابن عطية : ذكر تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمان ، ويترتب الحق لهم في كل جهات سوى المعاملات : كالمواريث إذا قسمت ، وغير ذلك ، والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ والإعطاء ، وهذه الصفة لا تخلو من حجر ولي أو وصي ، وذلك وليه . والضعيف المدخول العقل الناقص الفطرة ، ووليه وصي أو أب ، والذي لا يستطيع أن يمل هو الغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك ، ووليه وكيله ، والأخرس من الضعفاء ، والأولى أنه ممن لا يستطيع ، وربما اجتمع اثنان أو الثلاثة في شخص ، انتهى ، وفيه بعض تلخيص ، وهو توكيد الضمير المستكن في : أن يمل ، وفيه من الفصاحة ما لا يخفى ؛ لأن في التأكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير ، والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه .

وقرئ شاذا بإسكان هاء ( هو ) وإن كان قد سبقها ما ينفصل ؛ إجراء للمنفصل مجرى المتصل بالواو والفاء واللام ، نحو : وهو ، فهو ، لهو ، وهذا أشذ من قراءة من قرأ : ( ثم هو يوم القيامة ) لأن ثم شاركت في كونه للعطف ، وأنها لا يوقف عليها فيتم المعنى .

( فليملل وليه بالعدل ) الضمير في ( وليه ) عائد على أحد هؤلاء الثلاثة ، وهو الذي عليه الحق ، وتقدم تفسير ابن عطية للولي ، وقال الزمخشري : الذي يلي أمره من وصي إن كان سفيها أو صبيا ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يمل عنه ، وهو يصدقه ، وذهب الطبري إلى أن الضمير في وليه يعود على الحق ، فيكون الولي هو الذي له الحق ، وروي ذلك عن ابن عباس والربيع .

قال ابن عطية : ولا يصح عن ابن عباس ، وكيف تشهد البينة على شيء ويدخل مالا في ذمة السفيه ، بإملاء الذي له الدين ، هذا شيء ليس في الشريعة .

قال الراغب : لا يجوز أن يكون ولي الحق كما قال بعضهم ؛ لأن قوله لا يؤثر إذ هو مدع .

و ( بالعدل ) متعلق بقوله : ( فليملل ) ويحتمل أن تكون الباء للحال ، وفي قوله : ( بالعدل ) حث على تحريه لصاحب الحق ، والمولى عليه ، وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على الصغير ، واستدل بها على جواز تصرف السفيه ، وعلى قيام ولاية التصرفات له في نفسه وأمواله .

التالي السابق


الخدمات العلمية