الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( اليوم أحل لكم الطيبات ) فائدة إعادة ذكر إحلال الطيبات التنبيه بإتمام النعمة فيما يتعلق بالدنيا ، ومنها إحلال الطيبات كما نبه بقوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) على إتمام النعمة في كل ما يتعلق بالدين . ومن زعم أن اليوم واحد قال : كرره ثلاث مرات تأكيدا ، والظاهر أنها أوقات مختلفة . وقد قيل في الثلاثة : إنها أوقات أريد بها مجرد الوقت ، لا وقت معين . والظاهر أن الطيبات هنا هي الطيبات المذكورة قبل .

( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) طعامهم هنا هي الذبائح ، كذا قال معظم أهل التفسير . قالوا : لأن ما كان من نوع البر والخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى ذكاة لا يختلف في حلها باختلاف حال أحد ، لأنها لا تحرم بوجه سواء كان المباشر لها كتابيا ، أو مجوسيا ، أم غير ذلك . وأنها لا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ، ولأن ما قبل هذا في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى . وذهب قوم إلى أن المراد بقوله : وطعام ، جميع مطاعمهم . ويعزى إلى قوم ومنهم بعض أئمة الزيدية ، حمل الطعام هنا على ما لا يحتاج فيه إلى الذكاة كالخبز والفاكهة ، وبه قالت الإمامية . قال الشريف المرتضى : نكاح الكتابية حرام ، وذبائحهم وطعامهم وطعام من يقطع بكفره ، وإذا حملنا الطعام على ما قاله الجمهور من الذبائح فقد اختلفوا فيما هو حرام عليهم ، أيحل لنا أم يحرم ؟ فذهب الجمهور إلى أن تذكية الذمي مؤثرة في كل الذبيحة ما حرم عليهم منها وما حل ، فيجوز لنا أكله . وذهب قوم إلى أنه لا تعمل الذكاة فيما حرم عليهم ، فلا يحل لنا أكله كالشحوم المحضة ، وهذا هو الظاهر لقوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب ، وهذا المحرم عليهم ليس من طعامهم . وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك .

والظاهر حل طعامهم سواء سموا عليه اسم الله ، أم اسم غيره ، وبه قال عطاء ، والقاسم بن بحصرة ، والشعبي ، وربيعة ، ومكحول ، والليث ، وذهب إلى أن الكتابي إذا لم يذكر اسم الله على الذبيحة وذكر غير الله لم تؤكل وبه قال أبو الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، وجماعة من الصحابة . وبه قال : أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك . وكره النخعي والثوري أكل ما ذبح وأهل به لغير الله . وظاهر قوله : " أوتوا الكتاب " أنه مختص ببني إسرائيل والنصارى الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، دون من دخل في دينهم من العرب أو العجم ، فلا تحل ذبائحهم لنا ، كنصارى بني تغلب وغيرهم . وقد نهى عن ذبائحهم علي ، رضي الله عنه ، وقال : لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر . وذهب الجمهور ، ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وابن المسيب ، والشعبي ، وعطاء ، وابن شهاب ، والحكم ، وقتادة ، وحماد ، ومالك ، وأبو حنيفة وأصحابه : أنه لا فرق بين بني إسرائيل والنصارى ومن تهود أو تنصر من العرب أو العجم في حل أكل ذبيحتهم . والظاهر أن ذبيحة المجوسي لا تحل لنا لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب . وما روي عن مالك أنه قال : هم أهل كتاب وبعث إليهم رسول يقال : زرادشت ، لا يصح . وقد أجاز قوم أكل ذبيحتهم مستدلين بقوله : ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) . وقال ابن المسيب : إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس . وقال أبو ثور : وإن أمر بذلك في الصحة فلا بأس . والظاهر أن ذبيحة الصابئ لا يجوز لنا أكلها ، لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب . وخالف أبو حنيفة فقال : حكمهم حكم أهل الكتاب . وقال صاحباه : هم صنفان ، صنف يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ، وصنف لا يقرءون كتابا ويعبدون النجوم ، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب .

( وطعامكم حل لهم ) أي : ذبائحكم [ ص: 432 ] وهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب . لما كان الأمر يقتضي أن شيئا شرعت لنا فيه التذكية ، ينبغي لنا أن نحميه منهم ، فرخص لنا في ذلك رفعا للمشقة بحسب التجاوز ، فلا علينا بأس أن نطعمهم ، ولو كان حراما عليهم طعام المؤمنين لما ساغ للمؤمنين إطعامهم . وصار المعنى : أنه أحل لكم أكل طعامهم ، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم ، والحل الحلال ويقال في الإتباع هذا حل بل .

( والمحصنات من المؤمنات ) هذا معطوف على قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب ; والمعنى : وأحل لكم نكاح المحصنات من المؤمنات ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) والإحصان يكون بالإسلام وبالتزويج ، ويمتنعان هنا ، وبالحرية وبالعفة . فقال عمر بن الخطاب ، ومجاهد ، ومالك ، وجماعة : الإحصان هنا الحرية ، فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية . وقال جماعة ، منهم مجاهد ، والشعبي ، وأبو ميسرة ، وسفيان ، الإحصان هنا العفة ، فيجوز نكاح الأمة الكتابية . ومنع بعض العلماء من نكاح غير العفيفة بهذا المفهوم الثاني . قال الحسن : إذا اطلع الإنسان من امرأته على فاحشة فليفارقها . وعن مجاهد : يحرم البغايا من المؤمنات ومن أهل الكتاب . وقال الشعبي إحصان اليهودية والنصرانية أن لا تزني وأن تغتسل من الجنابة . وقال عطاء : رخص في التزويج بالكتابية ، لأنه كان في المسلمات قلة ، فأما الآن ففيهن الكثرة ، فزالت الحاجة إليهن والرخصة في تزويجهن ، ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في إباحة نكاح الحرائر الكتابيات ، واتفق على ذلك الصحابة إلا شيئا روي عن ابن عمر أنه سأله رجل عن ذلك فقال : اقرأ آية التحليل - يشير إلى هذه الآية - وآية التحريم ، يشير إلى ( ولا تنكحوا المشركات ) وقد تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن .

وتزوج عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، نايلة بنت الفرافصة الكلبية على نسائه ، وتزوج طلحة بن عبد الله يهودية من الشام ، وتزوج حذيفة يهودية .

( فإن قلت ) : يكون ثم محذوف ; أي : والمحصنات اللاتي كن كتابيات فأسلمن ، ويكون قد وصفهن بأنهن من الذين أوتوا الكتاب باعتبار ما كن عليه كما قال : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ) . وقال : ( من أهل الكتاب أمة قائمة ) ثم قال بعد ( يؤمنون بالله واليوم الآخر ) ( قلت ) : إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار ، ولا يطلق على مسلم أنه من أهل الكتاب ، كما لا يطلق عليه يهودي ولا نصراني . فأما الآيتان فأطلق الاسم مقيدا بذكر الإيمان فيهما ، ولا يوجد مطلقا في القرآن بغير تقييد إلا والمراد بهم اليهود والنصارى . وأيضا فإنه قال : والمحصنات من المؤمنات ، فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات ، فوجب أن يحمل قوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وإلا زالت فائدته ، إذ قد اندرجن في قوله : والمحصنات من المؤمنات . وأيضا فمعلوم من قوله تعالى : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) أنه لم يرد به طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب ، بل المراد اليهود والنصارى ، فكذلك هذه الآية .

( فإن قيل ) : يتعلق في تحريم الكتابيات بقوله تعالى : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) ( قيل ) : هذا في الحربية إذا خرج زوجها مسلما ، أو الحربي تخرج امرأته مسلمة ، ألا ترى إلى قوله : ( واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) ولو سلمنا العموم لكان مخصوصا بقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، والظاهر جواز نكاح الحربية الكتابية لاندراجها في عموم : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم . وخص ابن عباس هذا العموم بالذمية ، فأجاز نكاح الذمية دون الحربية ، وتلا قوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون ) إلى قوله ( وهم صاغرون ) ولم يفرق غيره من الصحابة من الحربيات والذميات . وأما نصارى بني تغلب فمنع نكاح نسائهن علي وإبراهيم [ ص: 433 ] وجابر بن زيد ، وأجازه ابن عباس .

( إذا آتيتموهن أجورهن ) أي : مهورهن . وانتزع العلماء من هذا أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل لها من المهر ما يستحلها به ، ومن جوز أن يدخل دون بذل ذلك رأى أنه محكم الالتزام في حكم المؤتى . وفي ظاهر قوله : إذا آتيتموهن أجورهن ، دلالة على أن إماء الكتابيات لسن مندرجات في قوله : والمحصنات ، فيقوي أن يراد به الحرائر ، إذ الإماء لا يعطون أجورهن ، وإنما يعطى السيد . إلا أن يجوز فنجعل إعطاء السيد إعطاء لهن . وفيه دلالة أيضا على أن أقل الصداق لا يتقدر ، إذ سماه أجرا ، والأجر في الإجارات لا يتقدر .

( محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) تقدم تفسير نظيره في النساء . ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ) سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس : أنه تعالى لما أرخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن : لولا أن الله رضي ديننا وقبل عملنا لم يبح للمؤمنين تزويجنا ، فنزلت . وقال مقاتل : فيما أحصن المسلمون من نكاح نساء أهل الكتاب يقول : ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر . انتهى .

ولما ذكر فرائض وأحكاما يلزم القيام بها ، أنزل ما يقتضي الوعيد على مخالفتها ليحصل تأكيد الزجر عن تضييعها . وقال القفال ما معناه : لما حصلت لهم في الدنيا فضيلة مناكحة نسائهم ، وأكل ذبائحهم ، حصل لهم من الفرق في الآخرة بأن من كفر حبط عمله . انتهى . والكفر بالإيمان لا يتصور . فقال ابن عباس ، ومجاهد : أي ومن يكفر بالله . وحسن هذا المجاز أنه تعالى رب الإيمان وخالقه . وقال الكلبي : ومن يكفر بشهادة أن لا إله إلا الله ، جعل كلمة التوحيد إيمانا . وقال قتادة : إن ناسا من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا فأنزل الله تعالى : ومن يكفر بالإيمان ; أي : بالمنزل في القرآن ، فسمي القرآن إيمانا لأنه المشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان . قال الزجاج : معناه من أحل ما حرم الله ، أو حرم ما أحل الله فهو كافر . وقال أبو سليمان الدمشقي : من جحد ما أنزله الله من شرائع الإسلام وعرفه من الحلال والحرام . وتبعه الزمخشري في هذا التفسير فقال : ومن يكفر بالإيمان ; أي : بشرائع الإسلام ، وما أحل الله وحرم . وقال ابن الجوزي : سمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول : إنما أباح الله الكتابيات لأن بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن ، فحذر ناكحهن من الميل إلى دينهن بقوله : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله . وقرأ ابن السميقع : حبط ، بفتح الباء ، وهو في الآخرة من الخاسرين . حبوط عمله وخسرانه في الآخرة مشروط بالموافاة على الكفر .

التالي السابق


الخدمات العلمية