الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) ظاهره أنهم قالوا بأن الله هو المسيح حقيقة ، وحقيقة ما حكاه تعالى عنهم ينافي أن يكون الله هو المسيح ، لأنهم قالوا ابن مريم ، ومن كان ابن امرأة مولودا منها استحال أن يكون هو الله تعالى ; واختلف المفسرون في تأويل هذه الآية . فذهب قوم إلى أنهم كلهم قائلون هذا القول وهم على ثلاث فرق كما تقدم ، وأنهم أجمعوا ، وإن اختلفت مقالاتهم ، على أن معبودهم جوهر واحد أقانيم ثلاثة : الأب ، والابن ، والروح ; أي : الحياة ويسمونها روح القدس . وأن الابن [ ص: 449 ] لم يزل مولودا من الأب ، ولم يزل الأب والدا للابن ، ولم تزل الروح منتقلة بين الأب والابن . وأجمعوا على أن المسيح لاهوت وناسوت ; أي : إله وإنسان . فإذا قالوا : المسيح إله واحد ، فقد قالوا : الله هو المسيح . وذهب قوم إلى أن القائلين بهذا القول فرقة غير معينة ، يقولون : إن الكلمة اتحدت بعيسى سواء قدرت ذاتا أم صفة . وذهب قوم إلى أن اليعقوبية من النصارى هي القائلة بهذه المقالة ، ذكره البغوي في معالم التنزيل .

قال بعض المفسرين : وكل طوائفهم الثلاثة اليعقوبية ، والملكانية ، والنسطورية ، ينكرون هذه المقالة ، والذي يقرون به أن عيسى ابن الله تعالى ، وأنه إله . وإذا اعتقدوا فيه أنه إله لزم من ذلك قولهم بأنه الله . انتهى . وقد رأيت من نصارى بلاد الأندلس من كان ينتمي إلى العلم فيهم ، وذكر لي أن عيسى نفسه هو الله تعالى ، ونصارى الأندلس ملكية . قلت له : كيف تقول ذلك ، ومن المتفق عليه أن عيسى كان يأكل ويشرب ، فتعجب من قولي وقال : إذا كنت أنت بعض مخلوقات الله قادرا على أن تأكل وتشرب ، فكيف لا يكون الله قادرا على ذلك ؟ فاستدللت من ذلك على فرط غباوته وجهله بصفات الله تعالى . وذهب ابن عباس إلى أنهم أهل نجران ، وزعم طائفة منهم أنه إله الأرض ، والله إله السماء . ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإسلام ظاهرا وانتمى إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة ، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة : كالحلاج ، والشوذي ، وابن أحلى ، وابن العربي المقيم - كان - بدمشق ، وابن الفارض . وأتباع هؤلاء كابن سبعين ، والتستري تلميذه ، وابن مطرف المقيم بمرسية ، والصفار المقتول بغرناطة ، وابن اللباج . وأبو الحسن المقيم - كان - بلورقة . وممن رأيناه يرمى بهذا المذهب الملعون العفيف التلمساني وله في ذلك أشعار كثيرة ، وابن عياش المالقي الأسود الأقطع المقيم - كان - بدمشق ، وعبد الواحد بن المؤخر المقيم - كان - بصعيد مصر ، والأيكي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهرة من ديار مصر ، وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ التستري المقيم - كان - 2 بحارة زويلة . وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحا لدين الله يعلم الله ذلك وشفقة على ضعفاء المسلمين ، وليحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله تعالى ورسله ويقولون بقدم العالم ، وينكرون البعث . وقد أولع جهلة ممن ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه .

والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين . وقال ابن عطية : القائلون بأن الله ه والمسيح فرقة من النصارى ، وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح حظا من الألوهية . وقال الزمخشري : قيل : كان في النصارى من يقول ذلك ، وقيل : ما صرحوا به ، ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيـي ويميت ويدبر العالم .

( قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ) هذا رد عليهم . والفاء في " فمن " للعطف على جملة محذوفة تضمنت كذبهم في مقالتهم ; التقدير : قل : كذبوا ; وقل : ليس كما قالوا .

فمن يملك ; والمعنى : فمن يمنع من قدرة الله وإرادته شيئا ؟ أي : لا أحد يمنع مما أراد الله شيئا إن أراد أن يهلك من ادعوه إلها من المسيح وأمه . وفي ذلك دليل على أنه وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما ، بل تنفذ فيهما إرادة الله تعالى ، ومن تنفذ فيه لا يكون إلها ، وعطف عليهما : ومن في الأرض جميعا ، عطف العام على الخاص ، ليكونا قد ذكرا مرتين ، مرة بالنص عليهما ، ومرة بالاندراج في العام ; وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإرادة فيهما . وليعلم أنهما من جنس من في الأرض لا تفاوت بينهما في البشرية ، وفي ذلك إشارة إلى حلول الحوادث بهما ، والله سبحانه وتعالى منزه أن تحل به الحوادث ، وأن يكون محلا لها . وفي هذا رد على [ ص: 450 ] الكرامية . ( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ) والمسيح وأمه من جملة ما في الأرض ، فهما مقهوران لله تعالى ، مملوكان له ، وهذه الجملة مؤكدة لقوله : إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ; ودلالة على أنه إذا أراد فعل ، لأن من له ذلك الملك يفعل في ملكه ما يشاء .

( يخلق ما يشاء ) أي : إن خلقه ليس مقصورا على نوع واحد ، بل ما تعلقت مشيئته بإيجاده أوجده واخترعه ، فقد يوجد شيئا لا من ذكر ولا أنثى كآدم ، عليه السلام ، وأوائل الأجناس المتولد بعضها من بعض . وقد يخلق من ذكر وأنثى ، وقد يخلق من أنثى لا من ذكر معها ، كالمسيح . ففي قوله : يخلق ما يشاء ، إشارة إلى أن المسيح وأمه مخلوقان . وقيل : معنى يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة ، وكإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وغير ذلك ، فيجب أن تنسب إليه ولا تنسب إلى البشر المجرى على يده . وتضمن الرد عليهم أن من كان مخلوقا مقهورا بالملك عاجزا عن دفع ما يريد الله به لا يكون إلها .

( والله على كل شيء قدير ) تقدم تفسير هذه الجملة ، وكثيرا ما يذكر القدرة عقيب الاختراع وذكر الأشياء الغريبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية