الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا .

                                                                                                                                                                                                                                      الضمير في قوله " من بعدهم " راجع إلى النبيين المذكورين في قوله تعالى : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح الآية [ 19 \ 58 ] ، أي : فخلف من بعد أولئك النبيين خلف ، أي : أولاد سوء ، قال القرطبي رحمه الله في تفسير سورة " الأعراف " قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام : الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء ، والخلف بفتح اللام : البدل ، ولدا كان أو غريبا ، وقال ابن الأعرابي : الخلف بالفتح : الصالح ، وبالسكون : الطالح ، قال لبيد :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 444 ]

                                                                                                                                                                                                                                      ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه قيل للرديء من الكلام : خلف ، ومنه المثل السائر " سكت ألفا ونطق خلفا " ، فخلف في الذم بالإسكان ، وخلف بالفتح في المدح ، هذا هو المستعمل المشهور ، قال صلى الله عليه وسلم : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله " وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر ، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :


                                                                                                                                                                                                                                      لنا القدم الأولى إليك وخلفنا     لأولنا في طاعة الله تابع

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      إنا وجدنا خلفا بئس الخلف     أغلق عنا بابه ثم حلف
                                                                                                                                                                                                                                      لا يدخل البواب إلا من عرف     عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف

                                                                                                                                                                                                                                      ويروى : خضف ، أي : ردم . انتهى منه ، و الردام : الضراط .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى الآية الكريمة أن هذا الخلف السيئ الذي خلف من بعد أولئك النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة : أنهم أضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ، واختلف أهل العلم في المراد بإضاعتهم الصلاة ، فقال بعضهم : المراد بإضاعتها تأخيرها عن وقتها ، وممن يروى عنه هذا القول ابن مسعود ، والنخعي ، والقاسم بن مخيمرة ، ومجاهد ، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ، وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : إن هذا القول هو الصحيح ، وقال بعضهم : إضاعتها الإخلال بشروطها ، وممن اختار هذا القول الزجاج ، وقال بعضهم : المراد بإضاعتها جحد وجوبها ، ويروى هذا القول وما قبله عن محمد بن كعب القرظي ، وقيل : إضاعتها : إقامتها في غير الجماعات ، وقيل : إضاعتها : تعطيل المساجد والاشتغال بالصنائع والأسباب .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : وكل هذه الأقوال تدخل في الآية ; لأن تأخيرها عن وقتها ، وعدم إقامتها في الجماعة ، والإخلال بشروطها ، وجحد وجوبها ، وتعطيل المساجد منها كل ذلك إضاعة لها ، وإن كانت أنواع الإضاعة تتفاوت ، واختلف العلماء أيضا في الخلف المذكورين من هم ؟ فقيل : هم اليهود ، ويروى عن ابن عباس ومقاتل ، وقيل : هم اليهود والنصارى ، ويروى عن السدي ، وقيل : هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون عند ذهاب الصالحين منها ، يركب بعضهم بعضا في الأزقة زنى ، ويروى عن مجاهد وعطاء وقتادة ومحمد بن كعب القرظي ، وقيل : إنهم أهل الغرب ، وفيهم [ ص: 445 ] أقوال أخر .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : وكونهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس بوجيه عندي ; لأن قوله تعالى : فخلف من بعدهم [ 19 \ 59 ] ، صيغة تدل على الوقوع في الزمن الماضي ، ولا يمكن صرفها إلى المستقبل إلا بدليل يجب الرجوع إليه كما ترى ، والظاهر أنهم اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين خلفوا أنبياءهم وصالحيهم قبل نزول الآية ، فأضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات يدخلون في الذم والوعيد المذكور في هذه الآية ، واتباع الشهوات المذكور في الآية عام في اتباع كل مشتهى يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، وعن علي رضي الله عنه : من بنى المشيد ، وركب المنظور ، ولبس المشهور فهو ممن اتبع الشهوات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : فسوف يلقون غيا ، اعلم أولا أن العرب تطلق الغي على كل شر ، والرشاد على كل خير ، قال المرقش الأصغر :


                                                                                                                                                                                                                                      فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره     ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله : " ومن يغو " يعني ومن يقع في شر ، والإطلاق المشهور هو أن الغي الضلال ، وفي المراد بقوله " غيا " في الآية أقوال متقاربة ، منها أن الكلام على حذف مضاف ، أي : فسوف يلقون جزاء غي ، ولا شك أنهم سيلقون جزاء ضلالهم ، وممن قال بهذا القول : الزجاج ، ونظير هذا التفسير قوله تعالى : يلق أثاما [ 25 \ 68 ] ، عند من يقول : إن معناه يلق مجازاة آثامه في الدنيا ، ويشبه هذا المعنى قوله تعالى : إنما يأكلون في بطونهم نارا [ 4 \ 10 ] ، وقوله : أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار [ 2 \ 174 ] ، فأطلق النار على ما أكلوا في بطونهم في الدنيا من المال الحرام لأنها جزاؤه ، كما أطلق الغي والأثام على العذاب لأنه جزاؤهما ، ومنها أن الغي في الآية الخسران والحصول في الورطات ، وممن روي عنه هذا القول : ابن عباس ، وابن زيد ، وروي عن ابن زيد أيضا " غيا " أي : شرا أو ضلالا أو خيبة ، وقال بعضهم : إن المراد بقوله " غيا " في الآية : واد في جهنم من قيح ; لأنه يسيل فيه قيح أهل النار وصديدهم ، وهو بعيد القعر خبيث الطعم ، وممن قال بهذا ابن مسعود ، والبراء بن عازب ، وروي عن عائشة ، وشفي بن ماتع .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 446 ] وجاء حديث مرفوع بمقتضى هذا القول من حديث أبي أمامة وابن عباس ، فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن غيا واد في جنهم " كما في حديث ابن عباس ، وفي حديث أبي أمامة : أن غيا ، وأثاما : نهران في أسفل جهنم ، يسيل فيهما صديد أهل النار ، والظاهر أنه لم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي الذي أشرنا له آنفا ، ثم قال : هذا حديث غريب ورفعه منكر ، وقيل : إن المعنى : فسوف يلقون غيا ، أي : ضلالا في الآخرة عن طريق الجنة ، ذكره الزمخشري ، وفيه أقوال أخر ، ومدار جميع الأقوال في ذلك على شيء واحد ، وهو : أن أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات سوف يلقون يوم القيامة عذابا عظيما .

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا عرفت كلام العلماء في هذه الآية الكريمة ، وأن الله تعالى توعد فيها من أضاع الصلاة واتبع الشهوات بالغي الذي هو الشر العظيم والعذاب الأليم ، فاعلم أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في ذم الذين يضيعون الصلاة ولا يحافظون عليها وتهديدهم : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون [ 107 \ 4 - 7 ] ، وقوله في ذم المنافقين : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [ 4 \ 142 ] ، وقوله فيهم أيضا : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون [ 9 \ 54 ] ، وأشار في مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتبعون الشهوات وتهديدهم ، كقوله تعالى : والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم [ 47 \ 12 ] ، وقوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ 15 \ 3 ] ، وقوله تعالى : كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 46 - 47 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة : أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة ، ولا يتبعون الشهوات ، وقد أشار تعالى إلى هذا في مواضع من كتابه ، كقوله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ، إلى قوله : والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [ 23 \ 1 - 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وكقوله : [ ص: 447 ] وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ 79 \ 40 - 41 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية