الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وفي القاموس : وعدة المرأة أيام أقرائها ، وأيام إحدادها على الزوج ، وهو تصريح منه بأن العدة هي نفس القروء لا شيء زائد عليها ، وفي اللسان : وعدة المرأة أيام أقرائها ، وعدتها أيضا أيام إحدادها على بعلها ، وإمساكها عن الزينة شهورا كان أو أقراء أو وضع حمل حملته من زوجها .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا بيان بالغ من الصحة والوضوح والصراحة في محل النزاع ، ما لا حاجة معه إلى كلام آخر . وتؤيده قرينة زيادة التاء في قوله : ثلاثة قروء لدلالتها على تذكير المعدود وهو الأطهار ; لأنها مذكرة والحيضات مؤنثة .

                                                                                                                                                                                                                                      وجواب بعض العلماء عن هذا بأن لفظ القرء مذكر ومسماه مؤنث وهو الحيضة ، [ ص: 99 ] وأن التاء إنما جيء بها مراعاة للفظ وهو مذكر لا للمعنى المؤنث .

                                                                                                                                                                                                                                      يقال فيه : إن اللفظ إذا كان مذكرا ، ومعناه مؤنثا لا تلزم التاء في عدده ، بل تجوز فيه مراعاة المعنى ، فيجرد العدد من التاء كقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي : [ الطويل ]

                                                                                                                                                                                                                                      وكان مجني دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصر



                                                                                                                                                                                                                                      فجرد لفظ الثلاث من التاء ; نظرا إلى أن مسمى العدد نساء ، مع أن لفظ الشخص الذي أطلقه على الأنثى مذكر ، وقول الآخر : [ الطويل ]

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كلابا هذه عشر أبطن     وأنت بريء من قبائلها العشر



                                                                                                                                                                                                                                      فمجرد العدد من التاء مع أن البطن مذكر ; نظرا إلى معنى القبيلة ، وكذلك العكس ، كقوله : [ الوافر ]

                                                                                                                                                                                                                                      ثلاثة أنفس وثلاث ذود     لقد عال الزمان على عيالي



                                                                                                                                                                                                                                      فإنه قد ذكر لفظ الثلاثة مع أن الأنفس مؤنثة لفظا ; نظرا إلى أن المراد بها أنفس ذكور ، وتجوز مراعاة اللفظ فيجرد من التاء في الأخير ، وتلحقه التاء في الأول ، ولحوقها إذن مطلق احتمال ، ولا يصح الحمل عليه دون قرينة تعينه ، بخلاف عدد المذكر لفظا ومعنى ، كالقرء بمعنى الطهر ، فلحوقها له لازم بلا شك ، واللازم الذي لا يجوز غيره أولى بالتقديم من المحتمل الذي يجوز أن يكون غيره بدلا عنه ، ولم تدل عليه قرينة كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل ذكر بعض العلماء : أن العبرة في تذكير واحد المعدود وتأنيثه إنما هي باللفظ ، ولا تجوز مراعاة المعنى إلا إذا دلت عليه قرينة ، أو كان قصد ذلك المعنى كثيرا ، والآية التي نحن بصددها ليس فيها أحد الأمرين ، قال الأشموني في شرح قول ابن مالك : [ الرجز ]

                                                                                                                                                                                                                                      ثلاثة بالتاء قل للعشره     في عد ما آحاده مذكره



                                                                                                                                                                                                                                      في الضد جرد إلخ . . . ما نصه : الثاني اعتبار التأنيث في واحد المعدود إن كان اسما فبلفظه ، تقول : ثلاثة أشخص ، قاصدا " نسوة " ، وثلاث أعين قاصدا " رجال " ; لأن لفظ شخص مذكر ، ولفظ عين مؤنث ، هذا ما لم يتصل بالكلام ما يقوي المعنى ; أو يكثر فيه قصد المعنى . فإن اتصل به ذلك جاز مراعاة المعنى ، فالأول كقوله : [ ص: 100 ]

                                                                                                                                                                                                                                      ثلاث شخوص كاعبان ومعصر



                                                                                                                                                                                                                                      وكقوله : وإن كلابا . . البيت .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني كقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      ثلاثة أنفس وثلاث ذود

                                                                                                                                                                                                                                      . ا هـ منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الصبان في " حاشيته " عليه : وبما ذكره الشارح يرد ما استدل به بعض العلماء في قوله تعالى : ثلاثة قروء [ 2 \ 228 ] . بأربعة شهداء [ 24 \ 4 ] على أن الأقراء الأطهار لا الحيض ، وعلى أن شهادة النساء غير مقبولة ; لأن الحيض جمع حيضة ; فلو أريد الحيض لقيل ثلاث ، ولو أريد النساء لقيل بأربع .

                                                                                                                                                                                                                                      ووجه الرد أن المعتبر هنا اللفظ ، ولفظ قرء وشهيد مذكرين ، منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب والله تعالى أعلم أن هذا خلاف التحقيق ، والذي يدل عليه استقراء اللغة العربية جواز مراعاة المعنى مطلقا ، وجزم بجواز مراعاة المعنى في لفظ العدد ابن هشام ، نقله عنه السيوطي ، بل جزم صاحب " التسهيل " وشارحه الدماميني : بأن مراعاة المعنى في واحد المعدود متعينة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الصبان في " حاشيته " ، ما نصه : قوله فبلفظه ظاهره : أن ذلك على سبيل الوجوب ، ويخالفه ما نقله السيوطي عن ابن هشام وغيره من أن ما كان لفظه مذكرا ، ومعناه مؤنثا ، أو بالعكس ، فإنه يجوز فيه وجهان ا ه .

                                                                                                                                                                                                                                      ويخالفه أيضا ما في " التسهيل " وشرحه للدماميني . وعبارة " التسهيل " تحذف تاء الثلاثة وأخواتها ، إن كان واحد المعدود مؤنث المعنى حقيقة أو مجازا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الدماميني : استفيد منه أن الاعتبار في الواحد بالمعنى لا باللفظ ، فلهذا يقال : ثلاثة طلحات ، ثم قال في " التسهيل " وربما أول مذكر بمؤنث ، ومؤنث بمذكر ، فجيء بالعدد على حسب التأويل ، ومثل الدماميني الأول بنحو ثلاث شخوص ، يريد نسوة وعشر وأبطن يريد قبائل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني بنحو ثلاثة أنفس ؛ أي : أشخاص وتسعة وقائع أي : مشاهد ، فتأمل . انتهى منه بلفظه . وما جزم به صاحب " التسهيل " وشارحه ، من تعين مراعاة المعنى ، يلزم عليه تعين كون القرء في الآية هو الطهر ، كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي " حاشية الصبان " أيضا ما نصه : قوله جاز مراعاة المعنى في التوضيح أن [ ص: 101 ] ذلك ليس قياسيا ، وهو خلاف ما تقدم عن ابن هشام وغيره ، من أن ما كان لفظه مذكرا ومعناه مؤنثا أو بالعكس ، يجوز فيه وجهان ؛ أي : ولو لم يكن هناك مرجح للمعنى ، وهو خلاف ما تقدم عن [ التسهيل ] وشرحه أن العبرة بالمعنى ، فتأمل . ا ه منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الاستدلال على أنها الحيضات بقوله تعالى : واللائي يئسن من المحيض الآية [ 65 \ 4 ] ، فيقال فيه : إنه ليس في الآية ما يعين أن القروء الحيضات ; لأن الأقراء لا تقال في الأطهار إلا في الأطهار التي يتخللها حيض ، فإن عدم الحيض عدم معه اسم الأطهار ، ولا مانع إذن من ترتيب الاعتداد بالأشهر على عدم الحيض مع كون العدة بالطهر ; لأن الطهر المراد يلزمه وجود الحيض وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ، فانتفاء الحيض يلزمه انتفاء الأطهار فكأن العدة بالأشهر مرتبة أيضا على انتفاء الأطهار ، المدلول عله بانتفاء الحيض . وأما الاستدلال بآية : ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن فهو ظاهر السقوط ; لأن كون القروء الأطهار لا يبيح للمعتدة كتم الحيض ; لأن العدة بالأطهار لا تمكن إلا بتخلل الحيض لها ، فلو كتمت الحيض لكانت كاتمة انقضاء الطهر ، ولو ادعت حيضا لم يكن كانت كاتمة ; لعدم انقضاء الطهر كما هو واضح .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الاستدلال بحديث " دعي الصلاة أيام أقرائك " فيقال فيه : إنه لا دليل في الحديث البتة على محل النزاع ; لأنه لا يفيد شيئا زائدا على أن القرء يطلق على الحيض ، وهذا مما لا نزاع فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      أما كونه يدل على منع إطلاق القرء في موضع آخر على الطهر فهذا باطل بلا نزاع ، ولا خلاف بين العلماء القائلين : بوقوع الاشتراك في : أن إطلاق المشترك على أحد معنييه في موضع ، لا يفهم منه منع إطلاقه على معناه الآخر في موضع آخر .

                                                                                                                                                                                                                                      ألا ترى أن لفظ العين مشترك بين الباصرة والجارية مثلا ، فهل تقول إن إطلاقه تعالى لفظ العين على الباصرة في قوله : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين الآية [ 5 \ 45 ] يمنع إطلاق العين في موضع آخر على الجارية ، كقوله : فيها عين جارية [ 88 \ 12 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والحق الذي لا شك فيه أن المشترك يطلق على كل واحد من معنييه ، أو معانيه في الحال المناسبة لذلك ، والقرء في حديث " دعي الصلاة أيام أقرائك " مناسب للحيض [ ص: 102 ] دون الطهر ; لأن الصلاة إنما تترك في وقت الحيض دون وقت الطهر .

                                                                                                                                                                                                                                      ولو كان إطلاق المشترك على أحد معنييه يفيد منع إطلاقه على معناه الآخر في موضع آخر ، لم يكن في اللغة اشتراك أصلا ; لأنه كل ما أطلقه على أحدهما منع إطلاقه له على الآخر ، فيبطل اسم الاشتراك من أصله مع أنا قدمنا تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر المتفق عليه : " بأن الطهر هو العدة " وكل هذا على تقدير صحة حديث " دعي الصلاة أيام أقرائك " لأن من العلماء من ضعفه ، ومنهم من صححه .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن بعض طرقه لا يقل عن درجة القبول ، إلا أنه لا دليل فيه لمحل النزاع .

                                                                                                                                                                                                                                      ولو كان فيه لكان مردودا بما هو أقوى منه وأصرح في محل النزاع ، وهو ما قدمنا . وكذلك اعتداد الأمة بحيضتين على تقرير ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم ، لا يعارض ما قدمنا ; لأنه أصح منه وأصرح في محل النزاع ، واستبراؤها بحيضة مسألة أخرى ; لأن الكلام في العدة لا في الاستبراء . ورد بعض العلماء الاستدلال بالآية والحديث الدالين على أنها الأطهار ، بأن ذلك يلزمه الاعتداد بالطهر الذي وقع فيه الطلاق كما عليه جمهور القائلين : بأن القروء الأطهار ، فيلزم عليه كون العدة قرءين وكسرا من الثالث ، وذلك خلاف ما دلت عليه الآية من أنها ثلاثة قروء كاملة مردود بأن مثل هذا لا تعارض به نصوص الوحي الصريحة ، وغاية ما في الباب إطلاق ثلاثة قروء على اثنين وبعض الثالث ، ونظيره قوله : الحج أشهر معلومات والمراد شهران وكسر .

                                                                                                                                                                                                                                      وادعاء أن ذلك ممنوع في أسماء العدد يقال فيه : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي ذكر إن بقية الطهر الواقع فيه الطلاق عدة ، مبينا أن ذلك مراد الله في كتابه ، وما ذكره بعض أجلاء العلماء - رحمهم الله - من أن الآية والحديث المذكورين يدلان على أن الأقراء الحيضات بعيد جدا من ظاهر اللفظ كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      بل لفظ الآية والحديث المذكورين صريح في نقيضه ، هذا هو ما ظهر لنا في هذه المسألة والله تعالى أعلم ، ونسبة العلم إليه أسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا [ 2 \ 228 ] ظاهر هذه الآية الكريمة أن أزواج كل المطلقات أحق بردهن ، لا فرق في ذلك بين رجعية وغيرها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 103 ] ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البائن لا رجعة له عليها ، وذلك في قوله تعالى : الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها [ 33 \ 49 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وذلك لأن الطلاق قبل الدخول بائن ، كما أنه أشار هنا إلى أنها إذا بانت بانقضاء العدة لا رجعة له عليها ، وذلك في قوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ; لأن الإشارة بقوله : ( ذلك ) راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه في الآية بـ ثلاثة قروء .

                                                                                                                                                                                                                                      واشترط هنا في كون بعولة الرجعيات أحق بردهن إرادتهم الإصلاح بتلك الرجعة ، في قوله : إن أرادوا إصلاحا ولم يتعرض لمفهوم هذا الشرط هنا ، ولكنه صرح في مواضع أخر أن زوج الرجعية إذا ارتجعها لا بنية الإصلاح بل بقصد الإضرار بها ; لتخالعه أو نحو ذلك ، أن رجعتها حرام عليه ، كما هو مدلول النهي في قوله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ 2 \ 231 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فالرجعة بقصد الإضرار حرام إجماعا ، كما دل عليه مفهوم الشرط المصرح به في قوله : ولا تمسكوهن ضرارا الآية ، وصحة رجعته حينئذ باعتبار ظاهر الأمر ، فلو صرح للحاكم بأنه ارتجعها بقصد الضرر ، لأبطل رجعته كما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية