الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ومن أدلتهم ما رواه الدارقطني من حديث حماد بن زيد ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت معاذ بن جبل يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته " وفي إسناده إسماعيل بن أمية الذارع وهو ضعيف أيضا . فهذه الأحاديث وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال فإن كثرتها واختلاف طرقها ، وتباين مخارجها يدل على أن لها أصلا ، والضعاف المعتبر بها إذا تباينت مخارجها شد بعضها بعضا فصلح مجموعها للاحتجاج ، ولا سيما أن منها ما صححه بعض العلماء كحديث طلاق ركانة البتة ، وحسنه ابن كثير ، ومنها ما هو صحيح ، وهو رواية إنفاذه صلى الله عليه وسلم طلاق عويمر ثلاثا ، [ ص: 117 ] مجموعة عند أبي داود .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد علمت معارضة تضعيف حديث ابن عمر عند الدارقطني من جهة عطاء الخراساني ، ومعلى بن منصور ، وشعيب بن زريق ، إلى آخر ما تقدم : [ الخفيف ]

                                                                                                                                                                                                                                      لا تخاصم بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قويا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال النووي في " شرح مسلم " ما نصه : واحتج الجمهور بقوله تعالى : ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [ 65 \ 1 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : معناه أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه ; لوقوع البينونة ، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه هذا إلا رجعيا ، فلا يندم . ا ه محل الغرض منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : ومما يؤيد هذا الاستدلال القرآني ما أخرجه أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثا ، فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه ، فقال : ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ، ثم يقول يا ابن عباس ، إن الله قال : ومن يتق الله يجعل له مخرجا [ 65 \ 2 ] وإنك لم تتق الله ، فلا أجد لك مخرجا ، عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك . وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس بنحوه ، وهذا تفسير من ابن عباس للآية بأنها يدخل في معناها ومن يتق الله ولم يجمع الطلاق في لفظة واحدة يجعل له مخرجا بالرجعة ، ومن لم يتقه في ذلك بأن جمع الطلقات في لفظ واحد لم يجعل له مخرجا بالرجعة ; لوقوع البينونة بها مجتمعة ، هذا هو معنى كلامه ، الذي لا يحتمل غيره . وهو قوي جدا في محل النزاع ; لأنه مفسر به قرآنا ، وهو ترجمان القرآن وقد قال صلى الله عليه وسلم : " اللهم علمه التأويل " وعلى هذا القول جل الصحابة وأكثر العلماء ، منهم الأئمة الأربعة . وحكى غير واحد عليه الإجماع ، واحتج المخالفون بأربعة أحاديث ؛ الأول : حديث ابن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى ، وصححه بعضهم قال : طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : " كيف طلقتها " ؟ قال : ثلاثا في مجلس واحد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما تلك واحدة ، فارتجعها إن شئت " فارتجعها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : الاستدلال بهذا الحديث مردود من ثلاثة أوجه : [ ص: 118 ] الأول : أنه لا دليل فيه البتة على محل النزاع على فرض صحته ، لا بدلالة المطابقة ، ولا بدلالة التضمن ، ولا بدلالة الالتزام ; لأن لفظ المتن أن الطلقات الثلاث واقعة في مجلس واحد ، ولا شك أن كونها في مجلس واحد لا يلزم منه كونها بلفظ واحد ، فادعاء أنها لما كانت في مجلس واحد لا بد أن تكون بلفظ واحد في غاية البطلان كما ترى ; إذ لم يدل كونها في مجلس واحد على كونها بلفظ واحد بنقل ولا عقل ولا لغة ، كما لا يخفى على أحد ، بل الحديث أظهر في كونها ليست بلفظ واحد ، إذ لو كانت بلفظ واحد ؛ لقال بلفظ واحد وترك ذكر المجلس ; إذ لا داعي لترك الأخص والتعبير بالأعم بلا موجب كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      وبالجملة فهذا الدليل يقدح فيه بالقادح المعروف عند أهل الأصول بالقول بالموجب ، فيقال : سلمنا أنها في مجلس واحد ، ولكن من أين لك أنها بلفظ واحد فافهم . وسترى تمام هذا المبحث إن شاء الله في الكلام على حديث طاوس عند مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن داود بن الحصين الذي هو راوي هذا الحديث عن عكرمة ليس بثقة في عكرمة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن حجر في " التقريب " : داود بن الحصين الأموي مولاهم أبو سليمان المدني ثقة إلا في عكرمة ، ورمي برأي الخوارج ا ه . وإذا كان غير ثقة في عكرمة كان الحديث المذكور من رواية غير ثقة . مع أنه قدمنا أنه لو كان صحيحا لما كانت فيه حجة .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : ما ذكره ابن حجر في " فتح الباري " فإنه قال فيه ما نصه : الثالث : أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة ، وهو تعليل قوي ; لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتة على الثلاث ، فقال طلقها ثلاثا ، فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس . ا ه منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      يعني حديث ابن إسحاق ، عن داود بن الحصين المذكور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مع أنا قدمنا أن الحديث لا دليل فيه أصلا على محل النزاع . وبما ذكرنا يظهر سقوط الاستدلال بحديث ابن إسحاق المذكور .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية